هذه هي أطول أزمة سياسية مرت بها إسرائيل منذ تأسيسها، فقد تسببت في إجراء ثلاثة انتخابات متتالية، ولم ينشأ عنها حسم لجهة دون أخرى، وتباينت فيها المواقف والاصطفافات بين أطراف الأزمة .

والآن بعد مرور حوالي 500 يوم منذ انسحاب ليبرمان من الائتلاف الحاكم عقب حادث انكشاف وحدة سرية تعمل في قطاع غزة ، يأتي توقيع الاتفاق لتأليف حكومة وحدة بين حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو وحزب “أزرق أبيض” برئاسة بني جانتس. لينهي هذه الحالة وتتشكل حكومة إسرائيلية موسعة مدعومة من 74 عضو كنيست .

تتمحور الأزمة السياسية في إسرائيل في حقيقة الأمر على انقسامين  في المجتمع الاسرائيلي أحدهما عمودي والآخر أفقي.  يتمثل الانقسام العمودي بين دعاة الدولة الدينية وبين الدولة العلمانية، وربما كان خروج ليبرمان من تكتل اليمين الذي بلوره نتنياهو هو في الحقيقة بداية الإعلان رسميًا عن هذا الانقسام بعد إقرار قانون القومية في الكنيست، أما الانقسام الأفقي فهو في حقيقة الأمر مرتبط بنتنياهو شخصيًا وصراعاته مع المكونات السياسية في إسرائيل والتي لها علاقة بالفساد المستشري في إدارته خصوصًا بعد أن تم توجيه الاتهام لنتنياهو في قضايا ثلاث وتحدد موعدا لمحاكمته .

العلاقات الاسرائيلية التركية بعد تشكيل حكومة الوحدة  الاسرائيلية  

تعود العلاقة بين تركيا وإسرائيل إلى العام 1949 وتعتبر من أقدم العلاقات مع الدول الإسلامية ومرت بفترات تحالف استراتيجي مبني على قيم مشتركة ومصالح كبيرة واستمرت على نفس النسق حتى العام 1982. تأثرت العلاقات  بسبب الاجتياح الاسرائيلي للبنان ثم عادت مرة اخرى وتعززت بمزيد من التعاون خصوصًا في فترة العداء مع إيران وكذلك العمل ضد الاتحاد السوفييتي ، ولكن حدث تحول في العلاقات مع تركيا بوصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان وأصبح التعاون ذا منحى استراتيجي وتضمن اتفاقيات عسكرية واقتصادية هامة بنسق يتطور عامًا بعد آخر، إلى أن وصل اليمين الإسرائيلي بقيادة  بنيامين نتنياهو وأفيجدور ليبرمان، وبدأت بالفعل الأزمات والتلاسنات على وسائل الإعلام تظهر بكثرة غير مسبوقة ولكن ما يحكم هذه العلاقة اكبر بكثير من مجرد التصريحات الاعلامية وهذا بالتأكيد ربما يعطي مؤشرًا على طبيعة العلاقات التركية الإسرائيلية في وجود نتنياهو .

في حقيقة الأمر هناك مساران أساسيان في العلاقة بين إسرائيل وتركيا في ظل وجود نتنياهو، هما المسار الاقتصادي، والمسار السياسي، وظهر هذا واضحًا بعد أزمة سفينة مرمرة (2009). فبرغم التوتر الشديد الذي حدث وانتهى باتفاق المصالحة إلا أن العلاقات الاقتصادية بين الطرفين استمرت على نفس النسق طوال الازمة،  وربما أرسى هذا شكل العلاقة بين الطرفين في ظل نتنياهو، وربما يمكن تفسير اللهجة الشديدة التي استخدمها أردوغان في هذه الأزمة بإرجاعها إلى أسباب داخلية ساهمت في تقوية قدراته في مواجهة  الموالين للأتاتوركية وكسب غطاء شعبوي في معركته الداخلية، هذا بخلاف التعاطف الذي حصل عليه في الدول العربية والإسلامية والذي يساعده في تسويق نفسه كوريث للخلافة العثمانية و قائدًا إسلاميًا .

ولكن المتغير الذي حدث في المنطقة العربية بعد عام 2011 والثورات التي أطاحت بأنظمة وخلقت صراعات في المنطقة، أدخل دولًا وعوامل أخرى (إيران ، روسيا) إلى المنطقة فأصبحت هناك مصالح أكثر تعقيدًا للتعامل معها خصوصا بعد الخروج الأمريكي من سوريا، وهذه المتغيرات هي نفسها التي يواجهها نتنياهو (اسرائيل) ، بالتالي أصبح هناك الكثير من العوامل المشتركة وايضا التناقضات بين نتنياهو وأردوغان والمصالح التي يديرها كل طرف لتحقيق مآربه .

يحتاج نتنياهو الذي يريد استثمار الدعم الأمريكي له في تنفيذ صفقة القرن والقضاء على حل الدولتين الى وجود حماس في غزة، ولكن لا يحتاج إلى أي نشاط لحماس في الضفة، لذلك في هذه النقطة يلتقي أردوغان الإخواني مع نتنياهو. ويرى المراقب أن هناك استضافة لعناصر وقيادات  لحماس في تركيا وحتى الصف الثاني من حماس، بالإضافة إلى نقل الأموال إلى حماس في شكل البضائع التركية والتي تشكل أحد وسائل دعم حماس التي تمر عبر إسرائيل وغيرها تأتي في اطار خدمة المصالح بين نتنياهو واردوغان وربما كان هذا أحد الأسباب الرئيسية  لوجود قناة مفتوحة مع إسرائيل والاستجابة لطلبات نتنياهو بما فيها إبعاد صلاح العاروري الذي كان يقيم في تركيا بعد أن ثبت علاقته بأنشطة عسكرية في الضفة بما يخالف المصالح بين الطرفين .

قد يكون لتشكيل حكومة وحدة بين نتنياهو وجانتس  تداعيات على العلاقة مع تركيا في المستقبل. وأحد هذه التداعيات هو كيف ستتصرف الحكومة المقبلة مع حماس، ومع إيران في سوريا، خصوصًا أنه أصبح من الصعب الآن على تركيا أردوغان التخلي عن الخطاب الشعبوي والسياسة التركية المعتمدة اساسًا على مجموعة من المسارات والمصالح الاقتصادية خارجيًا للحفاظ على الاقتصاد التركي مع الحفاظ على هذا الخطاب داخليًا .

باعتقادي أن ما قامت به تركيا من الإفراج عن شابة وشاب من فلسطيني 48 مسجونين في تركيا  بناءً على طلب عضو الكنيست أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة قبل الانتخابات الاخيرة يأتي لدعم القائمة المشتركة ومن خلالها تبحث تركيا عن خلق علاقة وتأثير يسمح لها باستخدامه في اسرائيل، خصوصًا انها شعرت بغدر نتنياهو بها بعد اتفاقيات الغاز في المتوسط   .

مراكز الفكر الاسرائيلي  لها منظور آخر هو أن تركيا دولة إسلامية هامة فيها أصوات مغايرة  لا يجب أن نخسرها ، ولكن يجب أن يتم تحديد ثمن للعداء معنا مع توطيد العلاقة في شرق المتوسط والاستمرار في العلاقات التجارية معها ومع شعبها (معهد القدس للاستراتيجيات والامن 18 يونيو 2019 ) .

خلال العقد الماضي، تمكنت إسرائيل وتركيا من تجنب حالة العنف بينهما ، ولكن في وقت لاحق، لا يمكن تفسير حادثة مرمرة على أنها نقطة واحدة  منذ عام 2010 ، ازداد مستوى الشك بين الطرفين ، بل وحتى حصل على مسحة من العداء الشخصي بين الرئيس التركي  أردوغان ، ونتنياهو. تجاوز العداء المتبادل خطوط الحزب في كلا البلدين ، وهناك عناصر يمكن العثور عليها لتحسين العلاقات في مقاعد المعارضة في الكنيست والبرلمان التركي. في الوقت نفسه، لا تزال التجارة البينية  (حوالي 5 مليارات دولار في عام 2018) عاملاً مقيدًا ، مع التأكيد على وجود أصحاب المصلحة على كلا الجانبين للحفاظ على العلاقة. كما تم الحفاظ على علاقات الخطوط الجوية طوال الفترة (على الرغم من أن الشركات التركية فقط تعمل على خط تل أبيب-إسطنبول) ، وتم إيقاف حركة الركاب بين الدول مؤخرًا فقط بسبب أزمة شركات الطيران التي سببها وباء كورونا.

استغلت  قبرص واليونان حادثة مرمرة واعتبرته مؤشرًا على تزايد العدوان التركي – وهو انطباع دفعهما إلى إقامة علاقات دافئة مع إسرائيل، الأمر الذي جعل إسرائيل تبدي  اهتمامًا متزايدًا بالاقتراب  منهما بسبب تصاعد التوترات مع تركيا ،أدت اكتشافات الغاز الطبيعي والمشروع الطموح لبناء خط انابيب شرق المتوسط الى زيادة التوترات لكن بسبب وباء كورونا وانخفاض أسعار الطاقة اللذان تسببا  بتشكيل  عقبة رئيسية أمام مشروع  بناء خط أنابيب شرق المتوسط ​​(الذي تعمل تركيا على إحباطه) ، 

في الأسابيع الأخيرة، ظهرت تقارير في مراكز الدراسات الاسرائيلية، وفي الصحافة التركية ، حول محاولات إذابة الجليد في العلاقات التركية الإسرائيلية ، بما في ذلك التقارير عن المفاوضات حول اتفاقية ترسيم حدودهما البحرية. 

على الرغم من أنه من المشكوك فيه إلى حد كبير كيفية تسريب هذه الأخبار أو مصادرها ، فإن نشرها يثير تساؤلات حول رغبة محتملة في تركيا في تبني سياسة خارجية أكثر توازناً مرة أخرى استجابة للتحديات الحالية التي تواجه النظام الدولي ،أو أنها  مجرد رغبة في وضع إسفين في العلاقة بين إسرائيل وقبرص واليونان ، فمن المشكوك فيه للغاية ما إذا كانت إسرائيل تستجيب بسرعة نحو هذه المساعي .

في نهاية الأمر فإن إسرائيل التي تبني علاقتها الاستراتيجية مع تركيا على مصالح تخدم وجودها بالمنطقة سيكون من الصعب عليها التخلي عنها لاعتبارات كثيرة ولكن وجود نتنياهو ربما لا يكون مريحًا لأردوغان بما له من علاقات دولية متميزة وحكومة موسعة ومدعومة بعدد كبير من المقاعد في الكنيست خصوصًا بعد إعلانه نيته القيام بضم الاراضي الفلسطينية في الضفة ، الذي رد  عليه المتحدث باسم أردوغان ووصفها بأنها “امتداد لسياسة الاحتلال التي تنتهك القانون الدولي”. 

مما يعني أن المحاولات الحالية لتحسين العلاقات بين الدول سيكون لها فوائد ضئيلة وقصيرة المدى.

مازال المسار الاقتصادي هو المسيطر في العلاقة بين الطرفين ولا يتأثر رغم كل التصريحات الاعلامية بين نتنياهو وأردوغان في تبادل تجاري يتجاوز 4.3 مليار دولار سنويا. ربما المسار الوحيد الذي يمكن أن يؤثر على هذه العلاقة هو ما يسعى نتنياهو الى تحقيقه وهو إنشاء تحالف أمني إقليمي يتضمن دولًا عربية  قد يؤثر على نفوذ ومخططات أردوغان في المنطقة والاقليم .

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version