شهد التحالف الأمني والسياسي بالشرق الليبي خلال الفترة الأخيرة تصدعًا ملحوظًا، على خلفية تصاعد حجم الخلافات فيما بين عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي وخليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي نتيجة اختلاف الرؤى بشأن مسارات التسوية السياسية، وفى هذا الإطار، اكتسبت المصالحة التى حققها الرئيس السيسي فى 23 سبتمبر أهميتها فى ضوء إسهامها فى توحيد صفوف قيادات الشرق الليبي مجدداً قبل عقد مؤتمر جنيف القادم، لاسيما مع اعتزام المؤتمر إعادة ترتيب الأوضاع لبدء مرحلة سياسية جديدة، بما يعكس حرص مصر على تجاوز المخاوف المرتبطة بإمكانية أن تؤدى هذه الخلافات تأثيراتها السلبية على ثقل الشرق وفرض تسوية سياسية غير عادلة.

الموقف فى الغرب الليبى

أدى إعلان فايز السراج نيته الانسحاب من منصبه خلال الفترة القريبة القادمة إلى بدء مظاهر الصراع فيما بين المتنافسين الذى يعد أبرزهم القيادات التالية:

– أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسى، يتبنى الدعوة للتسوية السياسية ومواجهة المتطرفين منذ فبراير 2020، ولديه قناعة بأهمية الدور الروسي لتحقيق الاستقرار، وتربطه علاقات جيدة بـ”ميخائيل بوجدانوف” المبعوث الخاص للرئيس بوتين وبالشرق الليبي، كما ساهم فى التوصل الى اتفاق «سوتشي» لاستئناف إنتاج وتصدير النفط، لكنه حظى برفض سياسي من كافة أطراف الأزمة فى الغرب الليبي، فى إطار التحسب من تصدره المشهد وتزايد حجم نفوذه على حساب القيادات المتواجدة على الساحة بطرابلس، وضعًا فى الاعتبار أن هذا الاتفاق حقق عددًا من الإيجابيات لطرفي الأزمة بعد 8 شهور من الإغلاق وخسائر نحو 10 مليارات دولار، بجانب تزامنه مع تزايد حجم الضغوط الدولية والمحلية التى كانت تطالب بإعادة الإنتاج، حيث تماشى مع أهداف بني غازى من خلال حرمان ميليشيات طرابلس من التمويل، ومنع تركيا من الاستيلاء على عائدات النفط الليبي، فى مقابل توفيره مصادر الطاقة للغرب الليبي التى تسمح بتشغيل المرافق والخدمات وتزويده بإيرادات متجددة.

– فتحى باشاغا وزير الداخلية، طموحه يسبق قدراته، واندفاعه يسبق حساباته السياسية، تم إيقافه عن العمل بعد اتهامه بتدبير انقلاب مع المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة برعاية تركية للإطاحة بالسراج، لكنه عاد بضغط الميليشيات التابعة له فى مصراتة وطرابلس.

– خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، ممثل جماعة الإخوان، شارك في مختلف مخططات الفساد، وعارض مبدأ التوزيع العادل لعائدات النفط بين المناطق الليبية، ارتباطًا بسعي التنظيم للهيمنة عليها، وهو من أكبر عملاء المخابرات القطرية والتركية وأحد مشرعني الغزو التركي، وتربطة علاقات وطيدة بالمليشيات، خاصة ميليشيا الزاوية التابعة لتنظيم “القاعدة”، برئاسة شعبان هدية (أبو عبيدة الزاوي).

تجدر الإشارة إلى محاولة السراج احتواء تزايد نفوذ معيتيق، حيث قام بتجميد الجوانب السياسية لاتفاق النفط، ومنعه من معاودة الاتصال بالشرق الليبي، مع عدم المساس بموقعه السياسي، وذلك لتجنب اندلاع أية مواجهات مباشرة معه وتسبب ذلك فى تزايد حرج موقفه الذى تأثر سلبًا عندما اضطر إلى التراجع عن إيقاف باشاغا تحت الضغط العسكري والسياسي للميلشيات .

 تحركات حكومة الوفاق السياسية 

شرعت حكومة الوفاق فى إبداء قدرٍ من المرونة فى محاولة للحد من الانتقادات الغربية التى اتهمتها بإفساح المجال أمام التدخل العسكري التركي بالبلاد، حيث عقد كل من وزير الخارجية محمد سيالة، ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله اجتماعًا مع المختصين لبحث ترسيم الحدود البحرية مع اليونان ومالطا، وفقاً للقوانين المعترف بها دولياً، وقررا مطالبة شركات النفط العاملة فى المنطقة – وهى تركية بالأساس – بتعليق أنشطتها الاستكشافية باعتبارها موضع نزاع، كما تواصلت حكومة الوفاق مع حكومتيّ أثينا وفاليتا بهدف التوصل لاتفاقات ترسيم الحدود البحرية المشتركة، الأمر الذى سيؤثر حتمًا على الأهداف التركية بليبيا.  

 فى هذا الإطار كثفت حكومة الوفاق خلال الفترة الأخيرة من اتصالاتها للحصول على دعم المجتمع الدولي لتعزيز موقفها ومطالبها خلال مسار التسوية المتسارع، حيث استقبل فايز السراج فى 20 سبتمبر السفير الألمانى لبحث مساهمة الشركات الألمانية في مشاريع البناء والتعمير، فى محاولة لربط مصالح برلين باستمرار حكومته فى المشهد السياسي، كما التقى فتحى باشاغا بالسفير الإيطالي لبحث مستجدات الأوضاع وجهود التسوية دون تدخلات خارجية، فى حين اجتمع محمد الحداد رئيس أركان الوفاق مع كل من السفير والملحق العسكري الإيطالي لبحث التعاون الأمني والعسكري فى إزالة الألغام، بجانب وضع برامج تدريب واستقبال الطلبة الليبيين بالكليات العسكرية الإيطالية، كما استقبل الحداد الملحق العسكرى التركي وبحثا سُبل الدعم في مجالات التدريب والاستشارات العسكرية والأمنية، ومن جانب آخر اجتمع صنع الله رئيس مؤسسة النفط مع السفير الإيطالي لبحث التعاون في مجال النفط والغاز والأوضاع الأمنية بالحقول والمنشآت النفطية المتعلقة باستئناف عمليات الإنتاج.

 على المستوى الداخلى، سمحت حكومة الوفاق للنواب المنشقين عن البرلمان الليبي بالعمل من داخل ديوان البرلمان فى طرابلس، كما استقبل محمد آدم لينو النائب الثاني لرئيس المجلس لجنة المصالحة على مستوى ليبيا، للتأكيد على دور الوفاق فى دعم جهود التسوية.

الموقف التركي من تطورات الأحداث

 تأثر الموقف السياسي والتفاوضي التركي سلباً بقرار السراج بالإنسحاب من السلطة وأصابها بالانزعاج، خاصة مع صعوبة إعادة ترتيب أوضاعها بشكل سريع فى ظل الصراعات الداخلية التى ظهرت مؤخراً على السطح،  الأمر الذى أدى إلى إستدعاء أردوغان السراج إلى إستانبول يوم 21 سبتمبر ونصحه بالتراجع، خاصة أنه لم يستقِل بل تلاعب بالألفاظ، معرباً عن رغبته فى ترك المنصب، فى محاولة لاستباق احتمالات استبعاده حال تشكيل مجلس رئاسي جديد خلال مباحثات جنيف المقبلة، وهو ما دفع أردوغان لدعوة مجلس الأمن القومي التركى للاجتماع فى 24 سبتمبر لبحث التطورات الجارية في ليبيا من ناحية، وإيفاده عدد من المسئولين إلى طرابلس لإعادة ترتيب الأوضاع كل فى مجاله، وتكليفهم بربط أى نظام قادم بالتزامات تعاقدية وبرامج سداد ديون تضمن تبعيته الدائمة لتركيا من ناحية أخرى، وذلك بجانب تأكيده على استمرار التواصل مع روسيا بشأن التسوية السياسية فى ليبيا، واستكمال الاجتماعات بين مسئولي البلدين فى وزارتيّ الخارجية والدفاع (اجتماعات أنقرة 21 و 22 يوليو، وموسكو 31 أغسطس و1 و 15و 16 سبتمبر).  

 بتقييم مجمل الموقف التركى، وضح انعكاس تزامن العديد من الظروف السياسية والعسكرية والميدانية سلباً على السيطرة النسبية التركية على الأوضاع بطرابلس، بل وتأثر مساحة المناورات التى كانت تمتلكها  للضغط على معسكر طرابلس للحصول على بعض المكاسب خلال المرحلة الهامة الحالية من مسارات التفاوض المتعددة، لاسيما فى ظل عدم جدوى اتفاقات ترسيم الحدود التركية مع حكومة الوفاق عقب توقيع كل من مصر واليونان اتفاق ترسيم الحدود البحرية وفقاً لقواعد القانون الدولي، واتجاه البرلمان الليبي لتوقيع اتفاقيات مماثلة، فضلًا عن إمكانية غياب السراج عن المسرح السياسى خلال الفترة القريبة القادمة،  خاصة مع عدم استبعاد انضمام مزيد من قادة ومسئولي الغرب الليبي لمسار التسوية السياسية فى محاولة للحصول على أية مكاسب.

الموقف الميداني فى طرابلس

 من المتوقع أن تؤدى تداعيات حالة اللاسلم واللاحرب وقطع التمويل عن الميليشيات إلى انفلات أمني غير مسبوق فى طرابلس، ظهرت بوادره باندلاع الاشتباكات بين كتيبتيّ “الضمان” و”أسود تاجوراء”، حيث استخدمت فيه الدبابات والأسلحة الثقيلة بالمناطق السكنية، مما دفع وزير دفاع الوفاق لحل الكتيبتين وإحالة قادتهما للتحقيق، وتكليف الإرهابي صلاح بادي المدرج على القوائم، باستخدام القوة لفض الاشتباك، مستعينًا بـلواء “الصمود” الذراع المسلح للإخوان، مدعومًا بمليشيات القوة المشتركة وغالبيتها من المرتزقة السوريين.

 فى هذا الإطار، تنتظر العاصمة الليبية المزيد من الفوضى، وسكانها رهائن لدى الميليشيات، فى الوقت الذى ستسعى فيه تركيا لدفع أتباعها لتصدر المشهد بديلاً عن السراج، وتعطيل أي اتفاقات سياسية لتشكيل مجلس رئاسي وحكومة فى سرت مهمتها استعادة دور مؤسسات الدولة الموحدة، وفرض الاستقرار والأمن، ما قد يفرض حتمية التعامل مستقبلًا بالقوة مع الميليشيات لتفكيكها وإعادة فرض الأمن.

 مسارات التسوية السياسية

 تشهد المرحلة الحالية انخراط  البرلمان الليبي والعديد من القوى السياسية الأخرى فى مسارات التسوية السياسة والأمنية والاقتصادية بهدف توحيد مؤسسات الدولة، ونقل المقرات الحكومية الرئيسية مؤقتًا إلى مدينة سرت بعد تنفيذ الترتيبات المناسبة، تمهيدًا لتنظيم إنتخابات تشريعية ورئاسية.

 تجدر الإشارة إلى أن كافة التفاهمات التي تمت بين ممثلي شرق ليبيا وغربها تم التنصل منها فى البداية، وهو ما وضح فى أعقاب توقيع إتفاق النفط بسوتشي، ثم شرع الطرفان فى تنفيذه بعد استبعاد موقعيه لأسباب تتعلق بالتنافسات السياسية الداخلية، كما تكرر تجميد الموقف فى تفاهمات بوزنيقة المغربية، عندما بادر العديد من الأطراف فى البداية برفض نتائجها، الأمر الذى يؤكد أن أية مقاربات أو تفاهمات قد تتحقق بين طرفي الأزمة قد ترتبط بوجود ضغوط خارجية أو مرحلية.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version