تشهد جنوب أفريقيا _التى تعد من أكبر الاقتصادات فى القارة الأفريقية_ أسوأ موجة عنف منذ عام 1994، فهناك العديد من الاحتجاجات التى أودت بحياة العشرات من المواطنين، احتجاجا على حكم سجن الرئيس السابق جاكوب زوما، وذلك يوم السبت 10/7/2021 بمدينة ديربان وهى معقل قبيلة الزولو التى ينتمى إليها زوما الذين يشكلون نحو 30 بالمئة من التركيبة السكانية فى البلاد، والحكومة تواجه صعوبة كبيرة فى السيطرة على الأوضاع فى ظل امتداد موجة العنف وانتشارها فى عدة مدن واتخاذها لطابع قبلى عنيف.
فهناك مخاوف جدية من أن تؤدى موجة العنف الحالية إلى المزيد من التفتت فى النسيج المجتمعى الهش للبلاد، خاصة بوجود دولتان فى جنوب أفريقيا الأولى تحاكى الغرب والأخرى نموذج حقيقى للدولة الفقيرة وتظهر فى الأحياء الشعبية التى تنقصها الخدمات العامة، مما يزيد من الاحتقان المؤجج للصراع، فماذا يحدث فى جنوب أفريقيا ؟
أفريقيا
جاكوب زوما – صورة أرشيفية
ماذا يحدث فى جنوب أفريقيا ؟
ظهرت خلال الأيام القليلة الماضية مشاهد نهب واحتجاجات عنيفة فى جنوب إفريقيا، فى أعقاب تسليم رئيس جنوب أفريقيا السابق جاكوب زوما لنفسه لقضاء عقوبة 15 شهراً فى السجن، نتيجة تجاهله للمحكمة وعدم مثوله أمامها للتحقيق معه فى قضايا فساد مرتبطة بسنوات حكمه لجنوب أفريقيا التى امتدت من 2009 وحتى 2018، حيث دفعته هذه القضايا إلى تقديم استقالته والتنحى عن السلطة، وقد اعتبرت المحكمة عدم مثوله وحضوره لمناقشة هذه القضية ازدراء لها يستوجب العقوبة.
وبعد فترة وجيزة من دخول زوما السجن يوم 7/7/2021، انتشرت على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مطالب بإطلاق سراحه، والتهديد أنه فى حالة عدم القيام بذلك سوف يكون هناك احتجاجات.
وكان هذا هو السبب المباشر لحرق شاحنات المسافات الطويلة فى كوازولو ناتال، وإغلاق الطرق الرئيسية، والنهب الوحشى لمراكز التسوق والتدمير العنيف للممتلكات، الذى سرعان ما انتشر إلى جوتنغ، المركز الاقتصادى للبلاد، وقد لقى ما لا يقل عن 117 شخصًا مصرعهم فى الأحداث، وأصيب المئات ، ولحق دمار كبير بقيمة مليارات الراندات.
وكذلك توزيع لقاحات “كوفيد – 19” تعطل، حيث يخشى العديد من العاملين فى مجال الرعاية الصحية من الذهاب إلى العمل؛ كما أغلقت العديد من أماكن توزيع اللقاحات أبوابها خوفًا من النهب، وفي بعض المستشفيات، حدث نقص في الأكسجين لأن إغلاق الطرق جعل من المستحيل إيصال الأكسجين إليها.
لذلك، تعاني جنوب إفريقيا أزمة اقتصادية وسياسية خطيرة، تفاقمها أوضاع الصحة العامة، لكن عمليات النهب والاحتجاجات تشير إلى فشل القيادة السياسية، وأن حكومة حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى لم تعد صالحة لهذا الغرض، كان حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى الحاكم منذ فترة طويلة مشغولاً بالمعارك الداخلية بين الفصائل -بما في ذلك بين زوما والرئيس الحالى سيريل رامافوزا -والنهب من الدولة نفسها بحيث تم الانشغال على تحقيق مصالح المواطنين.
وحتى الآن تعانى جنوب أفريقيا من الفساد داخل أجهزة استخبارات الدولة، وتسييس الهياكل الاستخباراتية على مدى سنوات عديدة، حيث أن الشرطة ليس لديها ما يكفى من الدعم من عملاء المخابرات لتوقع مسارات العنف وقمعها جميعًا بسرعة، مما دفع القيادة السياسية إلى نشر الجيش لمساعدة الشرطة -وهى علامة على أن الدولة تفتقر إلى القدرة على الحفاظ على سلامة المواطنين باستخدام آليات الأعمال الشرطية العادية.
و بالإضافة لذلك هناك أكثر من 74 فى المائة من الشباب دون سن 25 عاطلين عن العمل، فى حين أن 43.2 في المائة من مجموع السكان من العمال المحتملين ليس لديهم عمل أيضاً، ويعانى نصف سكان جنوب إفريقيا فقرًا مزمنًا، في ظل عدم المساواة فى الأصول والدخل، مع وجود مجموعة صغيرة من الأثرياء فى القمة، وطبقة وسطى غير مستقرة ، وقاعدة كبيرة من الفقراء.
ربما عكس تأثيره علي الملايين من السود فى جنوب إفريقيا الذين يعيشون فى ظل ظروف من الفقر، ومن ثم ليس لهم حصة فى جنوب إفريقيا الحرة اسمياً التى قادها نيلسون مانديلا، وهم يفتقرون إلى الأمل والثقة فى الحكومة، لأن الاستثمار السياسي فى حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى منذ العام 1994 لم يحقق شعاره السياسى المعروف: “حياة أفضل للجميع”.
سمح حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى بالسرقة على نطاق واسع من الخزائن العامة ،وهو على وجه التحديد السبب فى تهرُّب زوما من المساءلة.
شركة تاليس الفرنسية – أرشيفية
لماذا يُحاكم زوما ؟
ربما كان تقديم الرئيس السابق جاكوب زوما نفسه للمحاكمة بمثابة الشرارة التى اندلعت على أثرها الاضطرابات والفوضى، إلا أن هذا لا ينفى اتهامات الفساد التى توجه إلى زوما، وتبعاً لذلك، خالف زوما كافة الشعارات التى تحدث عنها عند توليه السلطة فى عام 2009، فقد كان دائم الحديث عن مواجهته للفقر والبطالة وعدم المساواة، ولكنه أساء استخدام منصبه، وكان من أبرز مظاهر الفساد فى عهده العلاقات التجارية والاستثمارية التى جمعت بين عائلته وعائلة الأخوين جوبتاس والتى أطلق عليها مصطلح “زوبتاس” “Zuptas”، حيث امتلك هذا التحالف مجموعة من الشركات التى أبرمت عقوداً مربحة مع الإدارات الحكومية والتكتلات المملوكة للدولة، وقد أضرت “زوبتاس” بسمعة العديد من الشركات التى تعاملت معها، من بينها عدد من الشركات الدولية.
واتُهِم زوما بتلقى رشاوى فى صفقة أسلحة بمليارات الدولارات مع شركة “تاليس” الفرنسية، أشرف عليها خلال عام 1999 حينما كان نائباً للرئيس، كما لاحقته اتهامات باستخدام أموال دافعى الضرائب فى تطوير منزله الخاص، حيث بلغت هذه الأموال ما يقرب من 20 مليون دولار.
فضلاً عن ذلك، اتجه زوما إلى توظيف أفراد عائلته، ومنهم نجله دودوزان، فى مناصب عليا فى الدولة، ويؤكد مسئولون فى هيئات حكومية مختلفة أنهم تلقوا تعليمات مباشرة من تحالف “جوبتاس” لاتخاذ قرارات من شأنها تعزيز مصالح التحالف.
وأدت هذه الممارسات إلى خروج زوما من السلطة بعد أن أجبره حزب المؤتمر الوطنى على الاستقالة فى عام 2018، حيث يواجه زوما 16 تهمة فساد، بما فى ذلك الابتزاز والاحتيال وغسيل الأموال، كما اضطرت عائلة جوبتاس لمغادرة جنوب أفريقيا.
جنوب أفريقيا تسجل أعلى معدل للإصابات بفيروس كورونا فى القارة السمراء
الآثار الاقتصادية 
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التى تعيشها جنوب أفريقيا والتى تضاعفت تداعياتها بسبب القيود المفروضة لمواجهة انتشار جائحة كورونا ، أصابت شرائح واسعة من الشعب باليأس والإحباط، وكانت المُحرِّك الحقيقى للمواطنين، فقد تعرض اقتصاد جنوب أفريقيا- الذى يعد أكبر اقتصاد صناعى وثانى أكبر الاقتصادات من حيث النمو فى القارة- لحالة من الانكماش خلال عام 2020 فى ظل القيود المفروضة لمواجهة جائحة كورونا والتى ألحقت أضراراً بأعمال الإنتاج وأدت إلى تعطيل التجارة.
وفقا لإحصاءات أولية، فقد بلغت الخسائر المباشرة التى طالت الأسواق والمؤسسات الإنتاجية والخدمية نتيجة أعمال النهب وتوقف الإنتاج بأكثر من 15 مليار دولار، وتأثرت 40 ألف شركة إضافة إلى أكثر من 50 ألف متجر بأعمال العنف والنهب.
ونظرا لأهمية مدينة ديربان، مركز موجة العنف الحالية، كميناء رئيسى للبلاد، تتزايد الآثار الاقتصادية التى برزت ملامحها فى تخلص الأجانب من معظم الأسهم التى يمتلكونها. وأدت الاضطرابات أيضا إلى تعليق النقل العام، مما حد من قدرة العمال على الوصول إلى أماكن عملهم.
وتشير بيانات إلى أن عمليات النهب دفعت إلى حالة من الركود الاقتصادى فى نحو 60 بالمئة من مناطق البلاد، ومع اشتداد موجة العنف وتعرض مئات الشركات للنهب والسلب والتحطيم، أغلقت العديد من الأسواق والمحال التجارية الكبرى أبوابها، واضطر أصحابها لدفع مبالغ طائلة لشركات الأمن من أجل حمايتها.
وبسبب أعمال العنف الحالية، انخفضت قيمة الراند، العملة المحلية، بما يصل إلى 3.4 بالمئة مسجلا أدنى مستوى له فى أكثر من 3 أشهر، كما تراجعت أسهم شركات العقارات وتجارة التجزئة بنسب تصل إلى 7 بالمئة فى يوم واحد، وشهدت السندات السيادية موجة بيع عالية خلال اليومين الماضيين.
تداعيات سياسية
من المتوقع أن تكون الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية لموجة العنف الحالية كبيرة جدا مقارنة مع الموجات السابقة، رغم نشر نحو 25 ألف جندى فى عدة مدن من بينها ديربان وجوهانسبورغ، فإن حصيلة القتلى ارتفعت بشكل كبير بسبب استمرار موجة العنف وعدم قدرة المستشفيات على التعامل مع المصابين، إضافة إلى اتخاذ أعمال العنف الحالية بعدا قبليا وعرقيا خطيرا.
ومع اعتقال دودوزين ابن الرئيس السابق، نأى حزب المؤتمر الوطنى الإفريقى الحاكم الذى ينتمي إليه زوما بنفسه عن أعمال العنف الحالية.
وعلى الرغم من التصعيد الكبير للعنف الذى يتبناه مؤيدو الرئيس السابق جاكوب زوما لمنع محاكمته، إلا أن هذا لا ينفى اتهامات الفساد التى توجه إلى زوما والتى دفعته للخروج من السلطة ، حيث سمح- وفقاً لهذه الاتهامات- بالتعاون بين رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين للاستيلاء على أموال دافعى الضرائب عن طريق تضخيم العقود الحكومية أو التلاعب بها أو إفسادها.
وكذلك فان البعد العرقى يزيد من مخاطر الأحداث الحالية، وقد يطيل من أمدها قبل السيطرة عليها، وتتزايد حدة الاحتقان أكثر فى ظل شعور مناطق ولايات كوازولو والكاب الشمالية، التى انطلقت منها أعمال العنف، بالتهميش. ورغم أن البعد القبلى كان الغالب عند اندلاع أعمال العنف الحالية، فإنها ألقت بظلال قاتمة على الأوضاع السياسية فى البلاد.
سيريل رامافوزا – أرشيفية
التداعيات المحتملة 
إن معركة تحقيق العدالة الجنائية فى جنوب أفريقيا فى محاكمة زوما لا تزال تواجه العديد من التحديات الخطيرة التى لا تتوقف فقط عند الإطاحة برئيس الدولة السابق أو محاكمته ولكنها تتجاوزها إلى قضايا تمس الاستقرار فى هذه الدولة، فقد كشفت الاضطرابات الأخيرة- والتى تصاعدت فى أحياء مناطق الزولو ومدينة الكاب- عن التمييز الهائل الذى لا يزال شعب جنوب أفريقيا يعانى منه والانقسام بين أحياء غنية تتمتع بمستوى عالٍ من الرفاهية وأخرى فقيرة يعانى قاطنوها من الفقر والأمراض والتهميش من جانب الحكومات المختلفة، حيث يطل شبح الانقسامات الإثنية وتداعياتها الخطيرة فى ظل استمرار معاناة مواطنين من السود من الفقر فى الوقت الذى رفع زوما أثناء حكمه شعارات الدفاع عن الفقراء وغير المتعلمين، وهو أول رئيس من الجماعة الإثنية الأكبر فى البلاد وهى الزولو.
ويحاول الرئيس سيريل رامافوزا السيطرة على الاضطرابات بنشر ما يقرب من 25 ألف جندى فى المناطق التى اندلعت فيها، إلا أنه يواجه بالكثير من الاتهامات بالفشل فى توفير الأمن لمواطنى جنوب أفريقيا، فضلاً عن أن عدد القوات الأمنية التى تم نشرها غير كافٍ، وخاصة بالمقارنة بنشر 70 ألف عنصر لفرض إغلاق عام على مستوى البلاد للحد من انتشار فيروس كورونا العام الماضى. كما رفضت بعض الأحزاب عملية نشر قوات أمنية لمواجهة الشغب مثل حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية (EFF)، حيث أكد مسئولو الحزب أن الحل يكمن في “التدخل السياسى والمشاركة مع شعبنا”.
من ناحية أخرى، ظلت نسبة كبيرة من السكان فى المناطق المتضررة فى منازلهم، وشكل البعض ما تسميه وسائل الإعلام المحلية “فرق الدفاع” لحماية أحيائهم وأعمالهم التجارية مع استمرار أعمال النهب والحرق. وليس هناك شك فى أن الاضطرابات الحالية تمثل أكبر تحدى أمنى يواجهه رامافوزا منذ أن أصبح رئيساً للبلاد فى عام 2018 بعد الإطاحة بزوما
ومن المحتمل أن تتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية نتيجة انتشار وباء كورونا الذى يعمل على تعزيز تداعيات هذا التحدى، خاصة فى ظل تحذيرات المستثمرين والمحللين من أزمة ديون وشيكة سيكون لها آثار خطيرة على الدولة فى المستقبل وقد تؤدى إلى تحولها إلى دولة فاشلة.
فإن ما تواجهه اليوم جنوب أفريقيا يعد اختباراً حقيقياً لكل المكتسبات التى تمكنت هذه الدولة من تحقيقها منذ نجاح شعبها فى القضاء على الفصل العنصرى فى عام 1994، وقدمت نموذجاً للعالم فى التطور السياسى والاقتصادى، حيث كشفت هذه الأحداث عن استمرار معاناة قطاعات كبيرة من المجتمعات الفقيرة فى هذه الدولة من البطالة والفقر ونقص الخدمات فى ظل عجز هيئات العدالة فى البلاد عن القضاء على منظومة الفساد وظاهرة الإفلات من العقاب، لتصبح المعركة الراهنة للرئيس الحالى سيريل رامافوزا هى معالجة جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على التهميش الذى تعانى منه مناطق واسعة فى الدولة، وإصدار قرارات مباشرة لدعم القطاعات الأكبر من شعب جنوب أفريقيا، وفى هذا الإطار يمكن لجنوب أفريقيا طلب الدعم من شركائها الدوليين والإقليميين واستثمار النجاحات الخارجية التى حققتها فى دعم الاستقرار والتنمية فى هذه الدولة الأفريقية الكبيرة.
وفى النهاية هناك جناحان هما الأكثر حسما للأزمة وتحديد مسارها فى جنوب إفريقيا، الأول إصلاحى ويتزعمه الرئيس الحالى سيريل رامافوزا النائب السابق لزوما إضافة إلى الرئيس الأسبق تابو إيمبيكى، أما الثانى فيمثله مجموعة من مناصرى التحول الاقتصادى الراديكالى، مثل زوما نفسه ومعه عدد من النقابات العمالية التى ترى أن الفقراء أصبحوا أكثر فقرا فى ظل هيمنة الصفوة التى استفادت من قوانين تمكين البيض والرأسمالية والشركات العالمية من مفاصل الاقتصاد.
ومن الصعب التكهن بالمدى الذى يمكن أن تصل إليه الأوضاع الحالية فى جنوب افريقيا؛ لكن المؤكد أن المآلات ستكون خطيرة، وتبدو ورقة مناصرة الفقراء هى الورقة الرابحة التى يعتمد عليها أنصار زوما فى حسم الأزمة الحالية، حيث يتميز زوما، بشعبية كبيرة وسط الفقراء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version