تنعقد يوم الأربعاء الموافق 14 من شهر أكتوبر الجاري أول مفاوضات مباشرة، إسرائيلية لبنانية، برعاية أميركية، حول ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين. تنعقد المفاوضات بمقر قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان «يونيفيل» ببلدة الناقورة الحدودية اللبنانية على الساحل.  يتعلق الخلاف بمثلث يمتد داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان فى البحر المتوسط، مساحته قرابة 860 كم2، وتعد أهم مناطقه المربع رقم «9». نشأ النزاع نتيجة اختلاف طريقة ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين؛ إسرائيل تقوم بقياس الحدود بزاوية عمودية «90 درجة» على الخط الساحلي، بينما يرسمها لبنان باعتبارها استمراراً لخط الحدود البرية داخل المسطح المائى.. هذا الخلاف ناتج عن توقيع لبنان اتفاقية أعالى البحار لعام 1982 بما تتضمنه من ضوابط وآليات لعملية الترسيم، بينما ترفض إسرائيل التوقيع عليها، تجنبًا للالتزام بضوابطها.. سيكون للمفاوضات إسقاطات في عدة ملفات، منها ملف الحدود البرية، ومستقبل حزب الله، والوضع الاقتصادى اللبنانى، وموجة التطبيع الإقليمية، ومنتدى غاز شرق المتوسط،، ومصير البترول والغاز الفلسطينى في غزة… سنعرض هنا لدور القوى الدولية والإقليمية وموقفها من هذا التطور الهام.

الدور الأمريكى

     بدأت  الوساطة الأمريكية 2011، لكن جهودها كانت شكلية، لعدم وجود عناصر ضاغطة تفرض تمرير أى حل، لذلك اقتصر دورها على تهدئة الأوضاع، واستهلاك الوقت، دون استعجال التسوية. كان الوسيط الأمريكى فريدريك هوف قد اقترح عام 2012 خطاً يسمح للبنان باستثمار ما بين 55 و60% من المنطقة المتنازع عليها، مع تعليق الجزء الباقي لحين الترسيم الرسمى للحدود البحرية.. وتم طرح إقتراح آخر بإعطاء لبنان 500 كم2 وإبقاء 360 تحت السيطرة الإسرائيلية. وجاء اقتراح ديفيد ساترفيلد نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، بأن يترك للشركات التى تتولى التنقيب عن الغاز والنفط من الجهتين اللبنانية والإسرائيلية أن تقيم بينها شراكة، لتقاسم استثمار الثروة النفطية والغازية للمنطقة المتنازع عليها.. الخيار الرابع تضمن إعادة التفاوض على الحدود البحرية مع قبرص، التي استندت إسرائيل إلى خرائط الإتفاق معها للادعاء بحقها فى المساحة المتنازع عليها مع لبنان، لكن هذا الخيار يمس أوضاعاً قائمة ومستقرة، لحساب وضع غير مضمون، كما أنه يستغرق وقتًا طويلًا. كانت النتيجة أن باءت كل المشاريع بالفشل. 

بدأت الوساطة الأمريكية الأخيرة منذ أكثر من عامين، ووصلت لصيغتها النهائية فى يولية 2020،  أكد نبيه بري ممثل لبنان فى المفاوضات مطلع أغسطس إنّ المحادثات مع الأمريكيين بشأن ملف الترسيم أصبحت في خواتيمها، وقد ألمح ديفيد شينكر لذلك أيضًا فى زيارته لبيروت 8 سبتمبر المنصرم.. و كان سيناريو إعلان الإتفاق موضع اهتمام ديفيد هيل مساعد وزير الخارجية الأمريكى للشؤون السياسية، خلال زيارته للبنان منتصف أغسطس، بعد أيام من إنفجار مرفأ بيروت.

 ترى الولايات المتحدة أن البدء بترسيم الحدود البحرية، يسمح للبنان بالتنقيب عن الغاز في منطقتة الإقتصادية، مما يفرض قيودًا على حزب الله في صراعه مع إسرائيل، لأن المنصات اللبنانية سوف تكون هدفاً للطائرات الإسرائيلية عند أى مواجهة، مايضع الحزب فى مركز المسئولية عن الأزمات الإقتصادية.. وهناك توافق على انه في حالة نجاح ملف الحدود البحرية، سينطلق الجانبان برعاية أمريكية لملف الحدود البرية.

جدير بالاعتبار أن التحرك الأمريكى يدعم الرئيس ترامب فى الانتخابات الرئاسية، لأن الربط بين ترسيم الحدود البرية «الخط الأزرق» ونظيرتها البحرية يعنى إزالة آخر العقبات التى قد تعوق التوصل الى اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل.. كما أن تولي نبيه برى رئيس منظمة أمل الشيعية كان مطلباً أمريكيًا إسرائيليًا، لضمان التزام التكتل الشيعي بنتائج المباحثات، كما يحمل رسالة من حزب الله وإيران بقبولهما للتهدئة، وتقديم ذلك كمنحة للرئيس ترامب قبل الانتخابات، كبداية لمحاولات تفاهم حال فوزه فى الانتخابات.

الدور الفرنسى

بات الدور الفرنسي فى لبنان، يشكل قلقاً لواشنطن، لأن فرنسا تتعامل مع لبنان باعتباره أحد مستعمراتها، وفى نفس الوقت تنتاب واشنطن تخوفات من خسارة القوى السياسية التي تدعمها هناك، نتيجة قصور دورها السياسي والإقتصادي فى الأزمة عن مواكبة عمق تعقيداتها والضرورات الملحة للتسوية، خاصة فى ظل التحركات النشطة للرئيس ماكرون، التى بدا أنها تلقى قبول المجتمع اللبنانى، ما يهدد بعودة النفوذ الفرنسى برضاء أغلبية الشعب. المبادرات الفرنسية البناءة كان أخرها مخرجات مؤتمر سيدر بباريس في 2018 برعاية الرئيس ماكرون نفسه، والتي تقوم على أربع ركائز متكاملة لاستقرار لبنان « إنفاق استثماري بالبنى التحتية، إصلاح مالي، إصلاحات هيكلية وقطاعية، تطوير القطاعات الإنتاجية ودعم الصادرات»، وتستهدف تحقيق نمو مستدام، وإيجاد فرص عمل للشباب، وحماية النموذج اللبناني للسلم الأهلي والعيش المشترك.

تعثرت المبادرات الفرنسية؛ ماعرقل خروج لبنان من الأزمة الإقتصادية، ودفع بتداعيات الأزمة فى اتجاه مابلغته من فراغ حكومي وإجتماعي وأمني، إضافة الى الانهيار الاقتصادي.. بعدها تبنى الرئيس ماكرون مبادرة فرنسية للخروج من الفراغ الحكومي، ولكنها اصطدمت بممانعة الثنائي الشيعي «أمل – حزب الله»،  الأمر الذي كان بمثابة إعلان رسمي عن تراجع فرنسا عن دور الفاعل الدولي الوحيد على الساحة اللبنانية، وتقدم الولايات المتحدة كلاعب أكثر فاعلية، استطاع التوصل لاتفاق إطاري لترسيم الحدود مع إسرائيل، وربطه بملف الغاز الذي يعتبر المخرج الوحيد للأزمة الإقتصادية الراهنة.. كما نجح فى تجاوز ممانعة الثنائي الشيعى الذى استعصى على الجانب الفرنسي، مما فرض واشنطن كطرف وسيط لتسوية الأزمة الداخلية اللبنانية، وفق شروطها بالطبع، والتى لابد وان تستهدف الدور السياسي والعسكري لحزب الله.

الدور الإيرانى

لعبت إيران دورًا حيويًا في الحياة السياسية اللبنانية من خلال الثنائي الشيعي، وجاء الاتفاق الإطاري برعاية الرئيس بري زعيم حركة «أمل» ليبعث رسالة مضمونها أن هناك ضوءًا أخضر وموافقة ضمنية من إيران و«حزب الله»، طالما لا يشمل الحدود البرية!!.. واعتبرت تلك الموافقة رسالة من طهران إلى واشنطن والرئيس ترامب، بأن مفاوضات الناقورة قد تكون الوجه الآخر لمفاوضات أخرى تحت الطاولة بين طهران وواشنطن، حال إعادة إنتخاب ترامب، خاصة أنه تعهد بمعاودة المفاوضات بين البلدين، وذلك مع إحتفاظ ايران بالقدرة على وضع العراقيل فى طريق المفاوضات بتدخلات «حزب الله» عند الضرورة، خدمة للأهداف والمصالح الإيرانية.  

الدورين الروسي والتركي

تمارس كلٌ من روسيا وتركيا دورًا نشطًا فى المنطقة خاصة فيما يتعلق بإمدادات الغاز لأوروبا. روسيا مصدر رئيسى لـ40% من احتياجات أوروبا، وتركيا حتى الآن هى الممر لمعظم خطوط نقل الغاز من روسيا ودول القوقاز لأوروبا.. روسيا ترحب بالاتفاق الإطارى، لأن حل إشكاليات الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية يمكِّن شركة «نوفاتيك» الروسية عضو الكونسيرتيوم صاحب الامتياز على قطاع مهم من الساحل اللبنانى من العمل، وضخ عائدات للخزينة الروسية، لكن الروس يحرصون على أن تعكس أى تسوية رضاء مختلف القوى اللبنانية، خاصة حزب الله، وذلك نظرًا للعلاقات الاستراتيجية التى تربط موسكو بطهران الممول الرئيسي للحزب. 

تأمل تركيا انه بعد انتهاء الأزمة اللبنانية يبدأ طرح مشاريع النقل، لأنها تعتبر أقرب المسارات المتاحة للتصدير الى أوروبا، وتطمع في أن يكون مثل هذا المشروع بداية لحوار سياسي تحركه المصالح الاقتصادية مع لبنان وإسرائيل، مما يعتبر السبيل الأمثل لتأمين حصة من مكاسب غاز شرق المتوسط، بعد أن حال الخط الأحمر المصري «سرت- الجفرة» دون تقدمها لاحتلال منطقة الهلال النفطي الذى كان الهدف الاستراتيجى لحملتها العسكرية على ليبيا، وتأمل تركيا في أن يكون ذلك مدخلاً لتسوية المشاكل المعلقة مع إسرائيل،خاصة وأنهما يتمركزان فى نفس الخندق كداعمين للجيش الأذربيجانى فى مواجهة القوات الأرمنية.  

الدور القبرصي

تتوسط قبرص المسطح المائي لمنطقة شرق المتوسط، لذلك فحدودها البحرية تتقاطع مع كل دول المنطقة، وهى ترتبط بعلاقات جيدة معهم، دون مشكلات أساسية في ترسيم حدودها، سوى مع تركيا، التى لا تعترف بحكومتها وتكتفى بالاعتراف بحكومة قبرص الشمالية «التركية». وقد وقعت قبرص ولبنان اتفاقية بالأحرف الأولى بشأن ترسيم الحدود، ولكن تأخر الرد اللبناني لاستكمال باقى الإجراءات أدى الى توقيعها اتفاق ثنائى لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل 2013، أعقبها محادثات موسعة مع لبنان تتعلق بعمليات الاستكشاف على الحدود البحرية، كأساس لاتفاق كان من المفترض توقيعه في سبتمبر 2019، لكن الأزمات اللبنانية المتتالية حالت دون ذلك.. أبدت قبرص استعدادها للعب دور الوسيط، لتسهيل التوصل إلى حل للنزاع البحري بين لبنان وإسرائيل، لكن هذه الإشكالية أكبر كثيراً من وساطتها، خاصة وأنها متورطة فى أزمات حادة وضاغطة مع تركيا. 

أهمية الإتفاق للبنان

  يعاني لبنان من انهيار اقتصادي نتيجة لسوء إدارة القادة الاقتصاديين ورؤساء الوزراء السابقين منذ اتفاق الطائف عام  1989، حيث اتبعت القيادة اللبنانية سياسة جذب الدولارات من البنوك اللبنانية وتحويلها إلى البنك المركزي، وذلك للسماح للحكومة اللبنانية بالتصرف في هذه الاموال كجزء من سياسة الاقتصاد القائم على الطلب، دون خلق اقتصاد منتج. بالتالي أصبحت هناك فجوة كبيرة بين الاحتياجات الاجتماعية ومصادر التمويل المتاحة لتغطية المصروفات. وقد أدت هذه السياسة في النهاية الى انهيار حكومة سعد الحريري في أكتوبر 2019، كما فشلت حكومة حسان دياب الذي تولى السلطة في يناير 2020 في بلورة سياسة اقتصادية منظمة وفاعلة تحت الضغوط الغربية التي هددت بفرض عقوبات على لبنان في حالة إقالة محافظ البنك المركزي.

لقد اثر الوضع الاقتصادي المنهار في لبنان على المكوٍن الشيعي بقيادة حزب الله بتحميله المسؤولية عن تدهور الوضع في لبنان  نتيجة لاعتماده على اتخاذ قرارات طائفية دون النظر على تاثيرها على استقرار لبنان السياسي و الاقتصادي مما ساهم  في حلحلة موقف حزب الله وموافقته على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل .

لذا فان إتفاق لبنان مع إسرائيل يكتسب أهمية بالغة، لأنه يمكِّنه من إستغلال ثرواته الغازية شرق المتوسط، التى تكمن داخل منطقته الإقتصادية الحرة التى تبلغ مساحتها 22 الف كم2 مما قد يساهم في حل الأزمة الاقتصادية اللبنانية .. وقدأفادت شركة «بي جي إس» النرويجية بأن مكامن الثروة الغازية فيها تتجاوز 80 تريليون قدم3، وقرابة 850 مليون برميل نفط، قد تصل قيمتها الى تريليون دولار.. وإذا كان كل تريليون قدم مكعب من الغاز يستخدم فى توليد 5000 ميجاوات كهرباء، فإن لبنان يمكن أن يحقق الاكتفاء الذاتي وأن يصدر الفائض للخارج.

مواقف الطرفين اللبنانى والإسرائيلى

حاولت إسرائيل قصر الإتفاق على ترسيم الحدود البحرية دون نظيرتها البرية، لكن لبنان تمسك بأن يكون الترسيم شاملاً، بهدف تصحيح خط الحدود البحرية في المنطقة الاقتصادية، وتثبيت الحدود الدولية القائمة، وإخراج إسرائيل من المناطق التى تحتلها. يتمسك لبنان بأن يكون الحل من خلال الأمم المتحدة، ووساطة أمريكية، إضافة لطرفي الموضوع.. تتمثل المطالب اللبنانية في البر فى تحرير «13 منطقة» من الاحتلال الإسرائيلي تقع على «الخط الأزرق»، للحدود البرية الإسرائيلية الذى يمتد من الناقورة إلى مزارع شبعا.. هذا الخط يستند إلى اتفاقية الهدنة الموقعة بين الدولتين لسنة 1949 والاتفاقيات الحدودية الفرنسية البريطانية لعام 1920.. الإشكالية التى تتعلق بمزارع شبعا، ربما توافق إسرائيل على حلها لسحب البساط من تحت أقدام «حزب الله» وحرمانه من مبرر إحتفاظه بأسلحته بحجة تحريرها، والزامه بالتحول الى حزب سياسي، وفقا لما تريده أغلب القوى المحلية والإقليمية والدولية، مما يمثل خسارة كبيرة لإيران.. 

كافة الأطراف أضحت راغبة فى إنجاز الإتفاق، وفرض التهدئة، كما أن «حزب الله» حريص على الا يتحول الى مركز للإستهداف، على نحو مايتم مع مواقعه والمواقع الإيرانية فى سوريا.. لكن ذلك لايمنع من توقع قيام الحزب بمحاولة عرقلة المفاوضات، كأداة تفاوض لتعزيز موقفه، كلما سمحت الظروف بذلك، كما سيتاجر نتنياهو بذلك داخليا، وهو ماوضح في إدعاءاته بوجود مخازن أسلحة لحزب الله بالمناطق السكنية ببيروت. إتفاق الإطار مجرد بداية، ربما تتخللها تعقيدات كثيرة، لكن محطتها الأخيره «الحل الأمريكى».

الإعداد تحت إشراف : اللواء/ جمال طه

 فريق باحثي المركز: عبد المهدي مطاوع 

                              إسلام كمال

                              إيهاب سراج الدين

                              إيمان بخيت             

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version