عُقدت في العاصمة المصرية القاهرة في مايو الماضى محادثات إعادة تطبيع العلاقات على مستوى نواب وزراء خارجية مصر وتركيا، وقد جاءت التصريحات عقب المباحثات إيجابية، بشأن استئناف العلاقات وتطورها، حيث صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائلا: “إن مصر ليست دولة عادية بالنسبة لبلاده، وإن أنقرة تأمل في تعزيز تعاونها مع مصر ودول الخليج إلى أقصى حد “على أساس نهج يحقق الفائدة للجميع”، ثم توالت التصريحات التي تصب في صالح دفع عجلة التقارب بين الدولتين حيث جاء على لسان متحدث الرئاسة التركية إبراهيم قالن، في تصريحات لشبكة بلومبرج: إن “مصر قلب وعقل العالم العربي، ولديها دور مهم في المنطقة”، ونقل عن مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي قوله: “المصالح المصرية التركية مشتركة”.
وقد استقبلت الدولة المصرية الرسائل التركية العلنية والسرية بمزيد من الحذر والتحفظ، وهذا ما بدا واضحًا في تحركات الدبلوماسية المصرية، فبالرغم من إعلان وزير الخارجية المصري سامح شكري استعادة الاتصالات الدبلوماسية مع تركيا، إلا أنه أكّد في الوقت نفسه أن “الأقوال وحدها لا تكفي، بل لا بدّ أن تكون الأقوال مقترنة بأفعال”، لاستعادة كامل الروابط بين البلدين.
أقطاي يُعيدها إلى نقطة الصفر
كتب ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي مقالا في جريدة “يني شفيق” التركية، منتقدًا التصديق على الأحكام الصادرة بإعدام 12 شخصًا من قيادات وعناصر جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، في قضية “فض اعتصام رابعة”، مضيفًا أن “إصدار قرار الإعدام بشكل جماعي بحق مئات الأشخاص لا يمكن تخيله فضلا عن الإقرار به”، كما ربط بين صدور الأحكام وأزمة “سد النهضة” الإثيوبي.
الرئيس التركى "أردوغان" - أرشيفية
الرئيس التركى “أردوغان” – أرشيفية
دلالة تصريحات أقطاي
التصريحات الصادرة من أقطاي، ليست في لقاء متلفز، حتى نحملها على محمل التعبير الذي خان صاحبه، أو أنها تصريحات فسّرت خطأ أو أُسيء فهمها، أو أنها تعبّر عن رؤية قائلها، بل هي مقال صحفي، أعد مسبق وروجع أكثر من مرة، الأمر الذي يؤكد أن كل ما ورد فيه كان مقصودًا، ويحمل رسائل معينة تحاول الدولة التركية إيصالها إلى الجانب المصري، وبالمقابل فعلى الدولة المصرية ألا تتجاهل مثل تلك التصريحات.
تلك التصريحات تؤكد أن تركيا ودعت في سياستها الخارجية سياسة “صفر مشكلات”، التي انتهجتها إبان بداية حكم حزب العدالة والتنمية التركي، وضمنت لها تحسين علاقاتها مع مختلف دول العالم ومع محيطها الإقليمي، إلى سياسة “صفر ثقة” و”صفر سلام”.
كما تؤكد تلك التصريحات أن المحرك الحقيقي لسياسة النظام التركي الحاكم الحالي هو أيديولوجية تيار الإسلام السياسي وأجندته الخاصة، وليست المصالح العليا للدولة التركية، ولا الأعراف الدبلوماسية والمواثيق الدولية التي تحترم الشؤون الداخلية للدول.
رمَتْني بدائها وانسلَّت
تعيش تركيا في الوقت الراهن أسوأ عهودها في انتهاك الحقوق والحريات، والتعذيب وسوء معاملة المحتجزين والسجناء؛ والحرمان من حق الدفاع عن النفس، أو إنكار التهم؛ وقد أسفر الاضطهاد الجماعي عن سجن ما يزيد عن 50.000 فرد بناء على اتهامات ملفقة في العشر سنوات الماضية فقط.
كما كشف تقرير برلماني للنائب سازجين تانريكولو عن حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض، أن عدد وقائع التعذيب والمعاملة السيئة في تركيا خلال عام 2019 سجلت 1123 واقعة تعذيب ومعاملة سيئة، وأنه خلال حالة الطوارئ التي استمرت عامين منذ إعلانها في يوليو/ تموز 2016 عقب الانقلاب المزعوم، تم حبس أكثر من 30 ألف شخص بتهمة المشاركة في تدبير الانقلاب، بينهم أكبر رقم للصحفيين المعتقلين في العالم والذي يتجاوز 120 صحفيًّا، و11 ألف سيدة برفقتهن 700 طفل. كما فصل منذ بداية الأحداث 130 ألف موظف مدني وعسكري من عملهم.
وكانت المنظمة الحقوقية الأمريكية Advocates of Silenced Turkey قالت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إن هناك انتهاكات واسعة منذ محاولة الانقلاب في 2016، كاشفة عن وفاة 93 سجينًا في تركيا نتيجة التعذيب، مستشهدًا بواقعة وفاة المُعلم جوكهان أتشيك كولو في 5 أغسطس/ آب 2016، نتيجة التعذيب المتواصل لمدة 13 يومًا داخل مديرية أمن إسطنبول.
وزير الخارجية المصري ونظيره التركي – أرشيفية
تأثير تصريحات أقطاي على مستقبل العلاقات بين البلدين
كان لمقال أقطاي مستشار الرئيس التركي ردود فعل مصرية قوية رافضة لما جاء في المقال جملة وتفصيلا، حيث علقت مصر الاجتماعات مع تركيا لإشعار آخر، وأبلغت القاهرة أنقرة أنها لن تتنازل عن تسليم عناصر مطلوبة أمنيًّا ولن تسمح باستمرار تجاوزات بعض المسؤولين الأتراك، كما وجهت القاهرة رسائل للجانب التركي مفادها أن أمن البلاد غير قابل للتفاوض بأي شكل من الأشكال.
وفي رد فعل عاجل وسريع لاحتواء الغضب المصري، أبلغت السلطات التركية عددًا من الإعلاميين المصريين في إسطنبول بوقف نشاطهم الإعلامي من داخل تركيا، بعدها مباشرة أعلن المذيعان معتز مطر ومحمد ناصر وقف بث برنامجهما على مواقع التواصل الاجتماعي بطلب من السلطات التركية.
وفي تقديري أن هذا الإجراء العاجل للسلطات التركية، والذي جاء بناء على تعليق الدولة المصرية كافة الاتصالات مع الجانب التركي، وتأكيدها على ضرورة وضع حد للتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وعدم السماح بأي نشاط على أراضي الدولة التركية في إطار زعزعة واستقرار الأمن المصري، هو محاولة جادة لإثبات حسن النية من جديد، والعمل على مواصلة إعادة العلاقات المصرية التركية، نظرًا لما يمثله التقارب التركي المصري من أهمية استراتيجية كبيرة، حيث يفتح نافذة لتحالفات جديدة، وفرص استثمار وقوة مؤثرة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها، في منطقة شديدة التعقيد والحساسية والأهمية بكل المقاييس.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version