قُبيل شن الهجوم الإيراني على إسرائيل وخلال اشتعال المعارك على سبع جبهات، قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إقالة وزير دفاعه يوأف جالانت، على إثر خلافات شديدة بينهما حول أهداف الحرب ومستقبل الحكم في قطاع غزة وصفقة تبادل الأسرى مع حماس، وكذلك حول مشروع قانون تجنيد “الحريديم” المثير للجدل، فضلا عن مطالبة جالانت بتشكيل لجنة تحقيق رسمية بشأن الإخفاق الإسرائيلي في التصدي لعملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر2023م.
وسبق لنتنياهو أن أصدر قرارا بإقالة وزير دفاعه في العام الماضي لكنه تراجع بعد احتجاجات عارمة، ثم وجد الفرصة سانحةً حالياً لإقالته في ظل انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية، وبعد أن ضم لائتلافه الحكومي حزب جدعون ساعر.
لقد كانت إقالة جالانت بمثابة الصدمة لأهالي الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، ذلك لأنه سعى جاهداً لتحقيق مطلبهم بإبرام صفقة تبادل الأسرى مع حماس حتى لو كان الثمن هو وقف الحرب على القطاع. وبعد إقالة جالانت لم يعد هناك صوت معارض لنتنياهو في الائتلاف الحاكم، مما يمهد الطريق لتغيير أهداف الحرب سواء فيما يخص الأسرى أو اليوم التالي في غزة أو حتى فيما يخص جنوب لبنان وإيران. كل ذلك في ظل الضغوط التي يمارسها بن جفير وسموتريتش لإخضاع قطاع غزة للحكم الإسرائيلي وعودة الاستيطان اليهودي للقطاع.
نقاط الخلاف بينهما!
كانت التعديلات القضائية هي السبب الأول لإقالة جالانت في المرة السابقة، ثم تفاقمت الخلافات بعد ذلك حول أسلوب إدارة الحرب على غزة وحول قانون التجنيد الذي يخدم مصالح نتياهو السياسية ويصب في مصلحة التيار الديني المتشدد “الحريديم”.
أرشيفية
تأججت الخلافات أيضًا بعد أن عارض نتنياهو بشدة اقتراح جالانت لنظيره الأمريكي “أوستين” إنشاء مستشفي في إسرائيل لاستقبال المرضى الفلسطينيين من قطاع غزة ونقلهم للعلاج في الخارج، بعد إغلاق معبر رفح واحتلال محور صلاح الدين، رغم أن ذلك الاقتراح كان يهدف لتجميل صورة إسرائيل ومنحها الشرعية في استكمال عدوانها على الفلسطينيين. كما رفض نتنياهو إصرار جالانت على إبرام صفقة تبادل الأسرى واعتراضه على عودة الحكم العسكري لقطاع غزة. بالفعل كانت الأسباب كثيرة لإحداث القطيعة بين نتنياهو وجالانت، إذ لم تشهد إسرائيل مثل تلك الخلافات والعلاقات المتردية بين رئيس وزراء ووزير دفاعه لا سيما خلال فترة الحرب.
وكان قانون تجنيد “الحريديم” بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة عندما أعلن جالانت عن إصدار سبعة آلاف أمر تجنيد لشباب ينتمون لذلك التيار الديني. وهنا استشاطت الأحزاب الحريدية غضبا من وزير الدفاع جالانت فوجد نتنياهو الفرصة مواتية لإقالته وتعيين بديل يفتقر إلى الخبرة وهو” يسرائيل كاتس”، وبذلك أصبح نتنياهو صاحب الكلمة العليا في المنظومة الأمنية الإسرائيلية.
على خطى بن جفير!
لقد أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي منذ فترة، التخلص من جالانت الذي عارضه بشراسة من داخل المنظومة الأمنية، ومع تغير الظروف، اختمرت فكرة الإقالة لدى نتنياهو بعد أن رأى كيف نجح وزير الأمن القومي إيتمار بن جفير في إخضاع جهاز الشرطة إلى هيمنته التامة خلال عام ونصف، لدرجة أنه بات يتحكم في تعيين جميع ضباط الشرطة صغيرهم وكبيرهم. وهنا شرع نتنياهو في التخلص من خصمه اللدود “جالانت” فأطاح به وقام بتعيين وزير جديد يخضع لإرادته ويفتقر إلى الخبرة وهو الوزير “كاتس”. وعليه، فقد أصبح في مقدور نتنياهو فرض سطوته على جميع القادة العسكريين ليصبح الجيش أداةً لتنفيذ أجندته السياسية.
لماذا الآن؟
لقد أراد نتنياهو منذ فترة طويلة إقالة جالانت بسبب اعتراضه على التعديلات القضائية كما أسلفنا، لكنه تراجع عن قرار الإقالة في ذلك الوقت، تحت ضغط الشارع الإسرائيلي، مما منح جالانت شعوراً بالثقة الزائدة، فتمادى في عناده ضد سياسة نتنياهو مطالباً بتشكيل لجنة تحقيق رسمية. كما استفز رئيس الحكومة بعدما اعتبر شعار “النصر المطلق” الذي أطلقه نتنياهو ، نوعا من الحماقة والهراء، ثم اعترض بشدة على إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، ولكن لماذا الآن؟
وحول السؤال: ما الذي دفع نتنياهو مؤخرًا لإقالة جالانت؟ هل اكتسب الشجاعة في ظل تغيير الظروف، أم ربما اتخذ قراراً متهورا؟، هناك من يرى أن نتنياهو استغل الانشغال بالانتخابات الأمريكية لإقالة جالانت. لكن الأرجح أنه وجد نفسه في وضعية أفضل بعد الإنجازات العسكرية على الجبهتين الشمالية والجنوبية، وبعد ازدياد ثقته بنفسه مع بدء الفصل التشريعي الشتوي للكنيست. وهو الآن يسعى جاهداً لتمرير قانون إعفاء الحريديم من التجنيد، لكن ربما لن يكون الأمر سهلاً في ظل وجود شبه إجماع حول ضرورة المساواة في تحمل عبء الخدمة العسكرية لاسيما مع نقص الجنود في الجبهات المتعددة.
التداعيات الداخلية
لا شك أن إقالة جالانت تحمل العديد من التداعيات الداخلية مثل:
1- إجراء تعيينات جديدة في المناصب القيادية العسكرية، إذ من المحتمل ألا يستمر رئيس الأركان هيرتسي هليفي في منصبه لفترة طويلة. ومع تعيين وزير دفاع لين العريكة وعديم الخبرة، بعد الفشل الأمني الذريع خلال أحداث السابع من أكتوبر 2023، فإن نتنياهو سيمتلك للمرة الأولى منذ عام 1996 فرصة تعيين من يشاء في منصب رئيس الأركان القادم وكذلك في باقي المناصب العسكرية القيادية.
2- توحيد صفوف أحزاب المعارضة بقيادة ليبرمان وجانتس ولبيد ويائير جولان، وذلك لأول مرة منذ إندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023. حيث أدى قرار نتنياهو المتهور إلى دفع قادة المعارضة لنبذ خلافاتهم وبدء العمل ككتلة موحدة ومتماسكة لتحقيق التغيير المنشود والسعي لإسقاط حكومة نتنياهو، التي باتت لا تهدد فقط حياة المعتلقين في غزة، بل تهدد تماسك الجيش والمجتمع وأمن إسرائيل بشكل عام.
3- إفساح المجال لسيطرة نتنياهو والتيار الديني المتطرف على مجلس الحرب، مما أدي إلى تلاشي الاعتبارات الأمنية التي شكلت محوراً اساسياً في تحديد أهداف الحرب، وفي مقدمتها إستعادة الأسري وترجمة الانجازات العسكرية إلى مكاسب سياسية.
4- جعل رئيس الأركان الحالي في موضع المسؤولية الكاملة أمام نتنياهو وعصابته. فهل سيسير رئيس الاركان على نهج جالانت ويتمسك بتحقيق أهداف الحرب، وفي مقدمتها استعادة الأسرى من قطاع غزة، وتحقيق مكاسب سياسية بعد “الإنجازات” العسكرية؟، أم أنه سيخضع لإملاءات نتنياهو وحكومتة اليمينية المتطرفة؟
خلاصة القول فإن الحرب التي تشنها إسرائيل أصبحت – بعد إقالة جالانت- بلا نهاية وبدون أهداف واضحة. ويبدو أن نتنياهو سينتظر توجيهات الرئيس ترامب عندما يتولى منصبه في يناير المُقبل، وحتى ذلك الحين ستظل الحرب مشتعلة بلا هدف.
ومن المشكوك فيه أن يسعى نتنياهو- وهو بصحبة سموتريتش وبن جفير- لإجراء أي ترتيبات سياسية، رغم أنها ضرورية لإنقاذ إسرائيل من أزماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. ولن يكون نتنياهو – بعد إزاحة جالانت- قادراً على تقديم أي تنازلات لاستعادة المختطفين. فضلا عن أنه يريد استمرار الحرب لخدمة مصالحه الشخصية، مما يعني أنه قد حكم على إسرائيل بالشلل السياسي إلى أن يتولى الرئيس الأمريكي الجديد منصبه في يناير المُقبل، عندئذ ستكون هناك أجندة إقليمية جديدة تخضع لتوجهات ترامب تجاه القضية الفلسطينية ومستقبل غزة ودول المنطقة. وربما يتوقع نتنياهو من الإدارة الأمريكية القادمة أن تضمن له البقاء في السلطة دون محاكمات مقابل إنهاء الحرب في غزة وجنوب لبنان.