توصلت إسرائيل ولبنان بعد مفاوضات استمرت لأكثر من عامين، إلى مسودة اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وذلك بمساعدة الوسيط الأمريكي عاموس هوخشتاين الذي قدم عرضًا خطيًا نهائيًا للطرفين، مُستغلًا الظروف الإقليمية الصعبة والتوقيت الحرج الذي تُقبل فيه إسرائيل على انتخابات مصيرية في الأول من نوفمبر 2022، وتمر فيه لبنان بأزمة اقتصادية وسياسية مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر من نفس العام.

وبعد التوصل للاتفاق، تجرى الآن الاستعدادات النهائية لمراسم توقيعه وطي صفحة الخلافات والنزاعات حول حقوق الاستفادة من المياه البحرية للبلدين. هذا وقد صادقت الحكومة الإسرائيلية على مبادئ الاتفاق الذي عُرض على الكنيست لإطلاع جميع النواب على بنوده. تمهيدا لمصادقة الحكومة عليه بشكل نهائي.

بارقة أمل للبنان!

بالنسبة للبنان الذي يمر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة، فإن المكاسب من الاتفاق تُعد اقتصادية بالدرجة الأولى، حيث ينص على أن عمليات البحث في حقل قانا ستبدأ فور التوقيع النهائي. ورغم أن لبنان لن يجني أرباح إنتاج الغاز قبل بضعة سنوات، إلا أن مجرد الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية يُعد بارقة أمل للشعب اللبناني الذي يواجه أزمة اقتصادية طاحنة. ولعل ذلك الاتفاق سيشجع الشركات الغربية وكذلك الخليجية للعودة لتنفيذ المشاريع والاستثمارات في لبنان مع تراجع احتمالات اندلاع حروب بين إسرائيل وحزب الله.

مخاوف حزب الله!

ترى الحكومة الانتقالية في تل أبيب أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان يُعد إنجازًا تاريخيا لأنه يضمن المصالح الأمنية لإسرائيل ويحقق  لها الاستقرار الاستراتيجيي والإقليمي، فضلا عن أنه سيؤدي إلى تراجع نفوذ إيران وتنظيم حزب الله داخل لبنان، بعدما حرصت تل أبيب على عدم استفادة التنظيم من عائدات الغاز اللبناني. ولذا يُعدُّ تنظيم حزب الله هو الخاسر الأكبر من مجرد إبرام الاتفاق، بعد أن سعى طيلة السنوات الماضية لإحباط أي محاولة للحوار مع إسرائيل لترسيم الحدود. ونظرًا لأن التنظيم يستمد شرعيته من وجود نزاع مستمر مع إسرائيل، ويمتلك أوراق المساومة داخل لبنان انطلاقا من دوره في التصدي للتهديدات الإسرائيلية، فإنه الآن بات يتخوف من فقدان نفوذه وشرعية وجوده، جراء التوصل للاتفاق الأخير.

الاتفاق يُشعل المعركة الانتخابية!

لقد جاء الإعلان عن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين بيروت وتل أبيب، قبل أقل من 20 يومًا من الذهاب إلى صناديق الاقتراع، مما أدى إلى اشتعال المعركة الانتخابية الخامسة خلال ثلاث سنوات ونصف، حيث لم تعد تلك المعركة الانتخابية تتمحور حول “عودة نتنياهو، أو إقصائه للأبد”،  بل تحول النقاش بين الحكومة والمعارضة لشيئ ملموس وأكثر واقعية وهو اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان والذي من شأنه أن يغير الموازين السياسية والاستراتيجية في المنطقة.

ومع اشتعال المعركة الانتخابية، تشن المعارضة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو هجوما على الحكومة الانتقالية بقيادة لبيد، معتبرة أن الاتفاق يمثل تنازلا للبنان وإذعانا لتهديدات حزب الله. فيما يزعم لبيد وقادة الائتلاف الحاكم أن الاتفاق يضمن لإسرائيل مصالحها الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية، ويفتح أمامها المجال لإنهاء الصراع مع لبنان وتحقيق الاستقرار للمستوطنين في شمال إسرائيل.

ورغم دعم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان إلا أن تداعيات الاتفاق هي التي ستحسم الجولة الانتخابية الخامسة. إذ ستواصل أحزاب المعارضة وعلى رأسها الليكود، انتقاد بنود الاتفاق، حتى لا يشعر الناخب الإسرائيلي بأن رئيس الوزراء لبيد قد حقق انجازا  سياسيا وأمنيا واقتصاديا يضمن له المزيد من الأصوات والمقاعد البرلمانية. ولكن مجرد موافقة لبنان على ترسيم الحدود لا يصب في مصلحة نتنياهو وقادة المعارضة، الذين تمنوا تجميد الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات ليكون إنجازا لهم دون غيرهم.

على الجانب الآخر تزعم الحكومة الانتقالية بأن الاتفاق يأتي ضمن سلسلة إنجازات حققها لبيد مؤخرا خلال فترة ولايته القصيرة في منصب رئيس الوزراء، مما يجعله أقدر من نتنياهو في رئاسة الحكومة المقبلة. ويؤكد المسؤولون في الحكومة على أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية يحقق جميع المصالح الإسرائيلية ويحظى بدعم المؤسسة الأمنية والعسكرية.

لبيد: هل يكسب الرهان؟

لقد أقدم لبيد على إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان لإنهاء تهديدات حزب الله، وحتى يثبت للناخبين الإسرائيليين أنه أجدر من نتنياهو على قيادة الدولة وتغليب لغة الحوار على لغة الحرب.

ويعلم “لبيد” مدي شعبية خصمه “نتنياهو” وتماسك معسكره اليميني الذي يخوض الانتخابات بحالة أفضل من معسكر الائتلاف الحاكم، ولذا استغل لبيد منصبه لتعزيز مكانته قٌبيل الانتخابات عبر اتخاذ خطوات تتجاوز حلبة السياسة الداخلية التي ربما لن يتفوق فيها على نتنياهو. وسبق أن أعلن لبيد في خطابه أمام الأمم المتحدة بأنه يؤيد تسوية القضية الفلسطينية وحل الدولتين، لجذب أصوات فلسطينيي الـ 48 واستمالة أحزابهم للانضمام للائتلاف الحكومي المقبل. كما شن هجوما على الرئيس الروسي وممارساته العدوانية ضد أوكرانيا لجذب أصوات المهاجرين من أوكرانيا ودول الاتحاد السوفييتي سابقا. وبالتوصل لاتفاق ترسيم الحدود مع لبنان، أراد لبيد أن يبدو في صورة الزعيم المُختلف الذي يمارس مهامه بقوة وحزم. ورغم قيادته لحكومة متعثرة إلا أنه توصل لاتفاق هام مع لبنان عشية الانتخابات دون خوف أو تردد. ومن الواضح أنه تقمص شخصية القائد الحازم لأنه يعلم مدى حُب الناخبين الإسرائيليين ولا سيما أنصار الليكود لصورة الزعيم القوي. فهل سيكسب لبيد الرهان ويشكل الحكومة المُقبلة؟

 

خلاصة القول، إن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل سيعكس تداعيات مختلفة على الدولتين، وهو ما يمكن إيجازه فيما يلي:

  • فيما يتعلق بلبنان، ستتغير موازين القوى الداخلية بعد تراجع الدور الذي سيلعبه حزب الله، الذي كان يستمد شرعيته من التصدى للعدوان الإسرائيلي. ورغم الدور الريادي الذي كان يتقمصه حزب الله إلا أن موافقة القيادة اللبنانية على الاتفاق الأخير تثبت أن الحزب لم يكن صاحب الكلمة العليا. ورغم انه كان مُطلعاً على سير المفاوضات ومؤثرا في صنع القرار اللبناني إلا أنه اضطر لقبول بعض البنود التي تضر مصالحه بسبب الوضع الاقتصادي الكارثي في لبنان وازدياد حدة الانتقادات الموجهة ضده. وفي محاولة لتحسين صورة حزب الله، قال إن التهديدات التي أطلقها هي التي أسهمت في إحراز الاتفاق.
  • فيما يخص إيران، فإن الاتفاق يعكس فشلًا آخر لطهران في مواجهة تل أبيب رغم استمرار معارضة القيادة الإيرانية لأي اتفاق محتمل مع إسرائيل “الشيطان الأصغر”، بوساطة الولايات المتحدة “الشيطان الأكبر”. ولا شك ان اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين بيروت وتل أبيب، سيعرقل جهود طهران لبسط نفوذها في لبنان. كما أنه يعزز علاقات لبنان بالغرب – لاسيما الولايات المتحدة وفرنسا- الأمر الذي يتعارض تماما مع تطلعات إيران لضم لبنان إلى المحور الشيعي.
  • أما ما يخص التداعيات على إسرائيل فستكون متعدده، ولعل أسرعها تتمثل في نتائج الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الأول من نوفمبر المقبل. إذ أصبح موضوع الاتفاق مع لبنان هو محور الخلافات والتراشقات بين أحزاب المعارضة والائتلاف، وكل طرف يسعى لتحليله من وجهة النظر التي تستميل أكبر نسبة من الأصوات الانتخابية لصالحه. وهناك تداعيات أخرى أمنية واقتصادية واستراتيجية ستُقدم الحكومة الإسرائيلية المقبلة على الاستفادة منها بعد إجراء الانتخابات، خاصة أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، يمثل خطوة جديدة تخدم مخططات التطبيع الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version