إعداد: حسين محمود التلاوي
وقعت رواندا والكونغو الديمقراطية اتفاق سلام في واشنطن يوم الجمعة 27 يونيو لينهي حالة الصراع بين البلدين، ويفتح الآفاق أمام مرحلة استقرار يمكن في ظلها استغلال المخزون الهائل من الثروات الطبيعية وبوجه خاص المعادن الاستراتيجية في المنطقة؛ وهو الأمر الذي تضمنه الاتفاق؛ حيث شمل إطارًا للتعاون الاقتصادي بين أطراف الاتفاق؛ رواندا والكونغو الديمقراطية والولايات المتحدة الوسيط بينهما. فما تأثير ذلك على الاستقرار في المنطقة، وعلى تنظيم الدولة الإسلامية الناشط فيها، وإمكانية الربط العملياتي بين فرعيه في الكونغو الديمقراطية وموزمبيق؟
آفاق واعدة
نص الاتفاق على انسحاب قوات رواندا من شرق الكونغو الديمقراطية خلال 90 يومًا من توقيع الاتفاق، وإنشاء آلية للتنسيق الأمني المشترك خلال 30 يومًا، إلى جانب الدمج المشروط لأفراد الجماعات المسلحة في الجيش الكونغولي، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين. وفيما يخص الجانب الاقتصادي، تضمن الاتفاق إطلاق إطار للتكامل الاقتصادي الإقليمي؛ مما يفتح الباب أمام الاستثمارات الغربية للتدفق في المنطقة.
وفي الإطار الاقتصادي شمل الاتفاق حصول الولايات المتحدة على ضمانات بخصوص حقوق التعدين في المنطقة الثرية بالمعادن الاستراتيجية؛ مثل الكوبالت والليثيوم والكولتان؛ وهي من المواد الأساسية للصناعات التكنولوجية. وكان هذا الإطار الاقتصادي ضمن حزمة عرضتها الكونغو الديمقراطية على الولايات المتحدة في مقابل المساعدة في حل الأزمة عقب خسارة الجيش الكونغولي للأراضي أمام الحركات المتمردة؛ وأبرزها حركة إم 23 (23 مارس) المدعومة من رواندا.
تحديات أمام الاتفاق
ومن بين التحديات البارزة أمام الاتفاق توقيع اتفاقات أخرى سابقة لم تسفر عن إيقاف النزاع. وفي ظل عدم توافر التفاصيل الكاملة عن الاتفاق تبقى بعض النقاط الإشكالية؛ مثل مسألة انسحاب حركة إم 23 من المناطق التي سيطرت عليها في شرق الكونغو الديمقراطية، واستمرار الاشتباكات حتى بعد توقيع الاتفاق. لكن وجود الولايات المتحدة ضامنًا للاتفاق بمصالح اقتصادية قد يمثل دفعة للاتفاق تساعد على تثبيته في ظل رغبة الولايات المتحدة في تثبيت أقدامهم في هذه المنطقة الحساسة من القارة بعد تضاؤل النفوذ الغربي في منطقة الساحل والصحراء عقب الانقلابات المتتالية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو التي أطاحت بالنفوذ الغربي، وأخذت في التوجه نحو روسيا والصين.
خلفيات الصراع والتدخل الرواندي في الشرق الكونغولي
تتسم العلاقة بين رواندا والكونغو الديمقراطية بالتوتر البالغ الناجم عن تراكم العديد من الملفات بين البلدين الجارين؛ ومن أبرزها التوترات العرقية، والثروات الطبيعية. وتعود جذور التوتر إلى فترة الحرب الأهلية الرواندية؛ حين فر الكثير من أفراد عرقية الهوتو من رواندا إلى شرق الكونغو الديمقراطية عام 1994، وكان من بينهم عناصر متورطة في الإبادة الجماعية ضد عرقية التوتسي في رواندا. وأعاد المسلحون الفارون تنظيم أنفسهم في جماعة أطلقوا عليها “القوات الديمقراطية لتحرير رواندا” المعروفة اختصارًا بالإنجليزية FDLR.
ردًّا على ذلك تدخلت رواندا، التي تحكمها نخبة من التوتسي، في الحرب الأهلية الكونغولية بمرحلتيها 1996-1997 و1998-2003؛ حيث قدمت الدعم اللوجستي والاستخباري لجماعات مسلحة بهدف الإطاحة بالحكومة الكونغولية. وتقول تقارير الأمم المتحدة إن هذا الدعم لا يزال مستمرًا ممثلًا في الدعم العسكري والاستخباري لجماعة إم 23 (23 مارس) المتمردة في شرق الكونغو الديمقراطية؛ وهو الدعم الذي تقول الحكومة الكونغولية إنه يهدف إلى السيطرة على الأرض لضمان الاستحواذ على الثروات الطبيعية. وكانت حركة إم 23 قد تأسست عام 2012 على يد منشقين عن الجيش الكونغولي من عرقية التوتسي، احتجاجًا على إخفاق الحكومة في تنفيذ اتفاق سلام جرى توقيعه عام 2009. ولما كان معظم قادتها من عرقية التوتسي، فقد كانت على صلة كبيرة برواندا التي تحكمها نخبة من العرقية نفسها، كما سبقت الإشارة.
تنظيم الدولة الإسلامية في الشرق الكونغولي.. النشأة والتطور
أدت حالة عدم الاستقرار في منطقة شرق الكونغو الديمقراطية إلى ظهور الجماعات الإسلامية المسلحة التي تجد في الفوضى وسطًا حيويًّا ملائمًا لنموها، ومن أبرز هذه الجماعات حاليًّا تنظيم الدولة الإسلامية ممثلًا في تنظيم ولاية وسط إفريقيا.
بدأ التنظيم يتمدد في المنطقة من خلال تنظيم القوات الديمقراطية المتحالفة؛ وهي جماعة مسلحة تأسست في أوغندا في تسعينيات القرن الماضي، وتقول إنها تهدف إلى رفع المظالم عن المسلمين في أوغندا. وبعد الجهود الأمنية الأوغندية، انتقلت الجماعة من غرب أوغندا إلى شرق الكونغو الديمقراطية قبل أن تعلن الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية عام 2019، تحت مسمى “ولاية وسط إفريقيا” كأحد فروع التنظيم خارج منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
دور رواندا في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في إفريقيا
لا تعتبر رواندا ساحة رئيسية لأنشطة تنظيم الدولة الإسلامية، للعديد من العوامل؛ من بينها السيطرة الصارمة للأجهزة الأمنية الرواندية على الداخل، وعدم وجود أقليات مسلمة رئيسية يمكن أن يستغلها التنظيم في التمدد بين أفرادها بداعي رفع المظالم الرسمية عنها؛ وهي استراتيجية رئيسية للتنظيم للتواجد والتمدد.
على الرغم من ذلك وعلى الرغم من أن رواندا ليست عضوًا في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، تلعب القوات الرواندية دورًا في مكافحة التنظيم وغيره من الجماعات الإسلامية المتشددة في دول المنطقة؛ بوجه خاص في موزمبيق.
التداعيات المحتملة لتدخل رواندا في الشرق الكونغولي على نشاط التنظيم
يمكن أن يؤدي تدخل رواندا في شرق الكونغو الديمقراطية إلى العديد من التداعيات على نشاط تنظيم ولاية وسط إفريقيا في المنطقة؛ ومن بين السيناريوهات المحتملة:
السيناريو الأول: استمرار المواجهات العسكرية دون حسم واضح
يتمثل هذا السيناريو في استمرار تدخل رواندا من خلال حركة إم 23 التي تسيطر على مدينة كيفو في شرق الكونغو، ولكن مع اضطراب هذه السيطرة بسبب عمليات القوات الكونغولية والأوغندية. قد يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الفوضى؛ وهو ما يلائم تنظيم الدولة الإسلامية الذي سوف يسعى إلى توسيع نطاق سيطرته بوجه خاص في مناطق الشمال الشرقي الغنية بالثروات التى يبحث عنها التنظيم؛ حيث يكتسب قوة تكفي لجعله مصدر تهديد دائم دون أن يتحول إلى طرف مهيمن.
السيناريو الثاني: استقرار نسبي تفرضه حركة إم 23 (أو أي طرف آخر)
هذا السيناريو هو القائم حاليًّا بدرجة ما، وقد يعززه الاتفاق الأخير بين رواندا والكونغو الديمقراطية؛ حيث تنجح حركة إم 23 في فرض سيطرة ميدانية واضحة دون قدرة من الأطراف الأخرى على زعزعة هذه السيطرة. يؤدي ذلك إلى فرض استقرار نسبي يقضي على الفوضى التي تعد الوسط الحيوي لنمو تنظيم الدولة الإسلامية. لكن على المدى الطويل قد يؤدي ذلك إلى تقويض سلطة الحكومة الكونغولية على أجزاء أخرى شرق البلاد؛ ما يساعد التنظيم على التمدد فيها.
السيناريو الثالث: انفجار الوضع ودخول أطراف دولية
من شأن الاتفاق الأخير أن يقضي على إمكانية تحقق هذا السيناريو، لكنَّ وجود تاريخ من الاتفاقات غير المطبقة في المنطقة يضع سيناريو الانفجار وتدخل المزيد من الأطراف كأحد الاحتمالات. في هذا السيناريو يجد تنظيم الدولة الإسلامية الظروف الملائمة تمامًا للتمدد وتوسيع سيطرته على الأرض، واكتساب قوة وأنصار؛ بوجه خاص في حالة توافر شبكات دعم خارجية؛ مثل شبكات التمويل والتدريب والانتشار الإعلامي.
ما طبيعة تنظيم الدولة الإسلامية في موزمبيق؟!
يتواجد تنظيم الدولة الإسلامية في موزمبيق من خلال فرع يسمى “ولاية وسط إفريقيا”، لكنه مختلف عن فرع شرق الكونغو الديمقراطية ويحمل الاسم نفسه. في البداية ظهر التنظيم في شمال موزمبيق كحركة محلية متشددة، في إقليم كابو ديلجادو، تُعرف باسم “أنصار السنة” أو “الشباب”؛ وهو مسمى مشابه لحركة الشباب في الصومال دون صلات حقيقية، ثم أعلن ولاءه رسميًّا لتنظيم الدولة الإسلامية عام 2019 تحت مسمى ولاية وسط إفريقيا.
كالعادة استفاد الفرع من حالة الفقر المدقع، والتهميش الاجتماعي لتجنيد مئات العناصر محليًّا، إلى جانب تدفق مقاتلين أجانب من تنزانيا وشرق إفريقيا. ومثَّل عام 2020 ذروة صعود الفرع بسيطرته بشكل صادم على مدينة موسيمبوا دا برايا الساحلية؛ وهي مدينة استراتيجية تُعَدُّ مركزًا مهمًّا في مشاريع الغاز الضخمة بالمنطقة قبل أن يطرده الجيش الرواندي عام 2021 بالتعاون مع الجيش الموزمبيقي وقوات سادك الإفريقية.
وعلى الرغم من طرد التنظيم، فإنه لا يزال نشطًا في منطقة غابات كاتوبا والمستنقعات والقرى المجاورة، ويمارس هجمات الكر والفر لبث الرعب، وتحقيق السيطرة الرمزية على الأرض مستغلًا مجموعة عوامل؛ مثل القدرة على التكيف مع الطبيعة الجغرافية الصعبة من غابات ومستقنعات.
احتمالات التنسيق الميداني بين فرعي تنظيم الدولة الإسلامية في موزمبيق والكونغو الديمقراطية
في ظل وجود تنسيق عملياتي بين ولاية الساحل وولاية وسط إفريقيا في تنظيم الدولة الإسلامية، قد يؤدي إقامة روابط مماثلة بين فرعي التنظيم في شرق الكونغو وموزمبيق إلى إقامة “طريق” للتنظيم يخترق قلب إفريقيا، بمناطق “آمنة” على طول هذا “الطريق”. لكن ما احتمالات نجاح ذلك؟ يتوقف ذلك على عدد من العوامل؛ ومن بينها:
1. استقرار الأوضاع بعد اتفاق السلام؛ حيث يحرم هذا الاتفاق تنظيم ولاية وسط إفريقيا من الفوضى السياسية والأمنية والاجتماعية الناشئة عن الاقتتال، والتي يحتاجها التنظيم للنمو.
2. عدم وجود أقليات مسلمة رئيسية في المناطق التي تفصل بين موزمبيق وشرق الكونغو؛ مثل مالاوي وزامبيا، وجنوب شرق الكونغو الديمقراطية؛ مما يُفقِد تنظيم الدولة الإسلامية الحاضنات الاجتماعية أو اللوجستية المحلية الضرورية، ويضعف “التمويه الاجتماعي”، إن جاز التعبير. لكن ذلك ليس عائقًا قاطعًا؛ إذ يمكن نقل المقاتلين والإمدادات في جماعات صغيرة بوسائل غير نمطية.
3. الأراضي التنزانية والأوغندية يمكن أن تلعب دور الجسر الذي تنتقل من خلاله جماعات المقاتلين والإمدادات بين فرعي التنظيم؛ فهناك مناطق ذات حضور إسلامي كبير غرب أوغندا (مقاطعة بونديبوجيو على سبيل المثال)؛ وهي المنطقة التي شكلت حاضنة لتنظيم القوات الديمقراطية المتحالفة، إلى جانب الوجود الإسلامي في شمال غرب تنزانيا عند بحيرة فيكتوريا؛ وما يعزز ذلك وجود روابط وصلات بين مسلحين وشخصيات مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية في تنزانيا وبين فرع التنظيم في موزمبيق.
4. مسارات هجرة الحيوانات البرية قد تمثل مسارًا غير تقليدي لتنقل المقاتلين والإمدادات اللوجستية؛ بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية المفتوحة لتلك المسارات، وعدم رغبة الدول في التدخل العسكري الكثيف في تلك المناطق لحماية الحياة البرية، والسياحة، وضعف المراقبة الحدودية أثناء الهجرات، بالإضافة إلى اتفاق بعض مسارات الهجرة التقليدية مع الحدود الدولية؛ مثلما الحال في شرق إفريقيا وجنوبها. يمكن استغلال تلك المسارات في تهريب الأفراد، والغذاء، وحتى السلاح استغلالًا للفوضى الطبيعية.
ومن بين النماذج على مسارات الهجرة التي يمكن أن يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية للربط بين فرعيه:
أ. حديقة “سيلو” في تنزانيا: تقع بالقرب من الحدود مع موزمبيق، ولها تاريخ في النشاط المسلح بالقرب منها؛ مما يجعلها مسارًا محتملًا.
ب. المحميات الطبيعية بين أوغندا والكونغو الديمقراطية: يمثل منتزه فيرونجا الشهير في أوغندا ملاذًا لإرهابيي تنظيم ولاية وسط إفريقيا، وجرى استغلاله أكثر من مرة للفرار بعد تنفيذ عمليات داخل الأراضي الأوغندية.
ج. الحدود بين الكونغو الديمقراطية وزامبيا: تشهد المنطقة هجرة موسمية للأفيال، ولا توجد عليها رقابة فعالة؛ فيمكن استخدامها في نقل العتاد الخفيف.
توصيات لاحتواء إمكانية التواصل بين فرعي تنظيم الدولة الإسلامية في الكونغو الديمقراطية وموزمبيق:
1. تفعيل بنود الاتفاق الموقع أخيرًا بين رواندا والكونغو الديمقراطية لأهمية الاستقرار شرق الكونغو في حرمان تنظيم ولاية وسط إفريقيا في المنطقة من حاضنته الاجتماعية، رغم التداعيات السياسية والإقتصادية المترتبة على هذا الإتفاق المتمثلة فى توفيره غطاء للتواجد الأمريكى وإمكانية إستنزاف الموارد المعدنية النادرة، بخلاف ماهو متوقع من إمكانية إستمرار قوات إم 23 بمنطقة كيفو الشمالية بشكل أو بأخر.
2. تعزيز الرقابة الحدودية بين دول المنطقة؛ وبوجه خاص بين أوغندا وكل من تنزانيا والكونغو الديمقراطية.
3. دعم المجتمعات المسلمة في المناطق التي يمكن أن يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية كحاضنات اجتماعية ومعابر.
4. مراقبة شبكات التهريب العادية وشبكات تهريب البشر، والأسواق المجاورة للمناطق الحدودية لسهولة نقل المؤن بل حتى الأفراد والعتاد مع السلع.
5. التعاون الأمني العابر للحدود بين مختلف دول الإقليم؛ وبوجه خاص الكونغو الديمقراطية، ورواندا، وأوغندا، وتنزانيا، وموزمبيق.
6. إنشاء وحدات مشتركة بين المخابرات وحماية البيئة لمراقبة مسارات الهجرة، وزيادة الوجود العسكري “المرن” بنشر وحدات استطلاع خفيفة أثناء مواسم الهجرة، والاعتماد على السكان المحليين في مراقبة المسارات بتدريب الرعاة على الإبلاغ عن أية نشاطات بشرية غير اعتيادية أثناء مواسم الهجرة.