من الواضح أن تداعيات الحرب التي تشنها إسرائيل حاليا على قطاع غزة ستكون خطيرة للغاية، لأن الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس في اليوم التالي مباشرة للذكرى الخمسين لهزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر 73، يعتبر غير مسبوق من حيث عدد القتلى والأسرى الإسرائيليين، فضلًا عن عنصر المفاجأة الذي أذهل الجميع. ويشعر الإسرائيليون بالصدمة لأنهم في حرب عام 67 ضد دول الجوار لم يُقتل منهم سوى 800 فرد، بينما قتلت حماس قرابة 1400في يوم واحد. وهي بلا شك ضربة موجعة ليس لإسرائيل وحدها بل للمعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، ولذا أعلنت حكومة تل أبيب حالة الحرب لأول مرة منذ عام 73، وأصدر العشرات من حاخامات “الصهيونية الدينية” بيانًا ناشدوا فيه الجيش الإسرائيلي بشن أعنف الهجمات على حماس دون مراعاة للقانون الدولي أو للسكان المدنيين من أهل غزة.
فيما ترى القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، أنه كلما كان الانتقام شديدًا ووحشيًا كلما كان الردع قويا لكل من تسول له نفسه التدخل في الحرب مثل إيران وحزب الله اللبناني أو الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق واليمن، أو حتى الفلسطينيين في الضفة الغربية وداخل حدود الـ 48.
معادلة صفرية:
لقد أدت الضربة التي وجهتها حماس لإسرائيل في السابع من أكتوبر 2023 إلى قلب موازين الصراع، وإلى إدخال إسرائيل وحماس في معادلة صفرية، حيث لن تكتفِي إسرائيل هذه المرة بمجرد تقويض نفوذ حماس، بل القضاء عليها وتصفية قياداتها وكوادرها واحتلال غزة وإعادة الاستيطان إليها وجعلها تحت السيادة الإسرائيلية وعدم تركها للسلطة الفلسطينية.
وهنا ترى إسرائيل أن الحرب الحالية لا بد ان تكون الحاسمة والأخيرة للقضاء على حماس وإنهاء التهديدات في كل الجبهات الأخرى. كما ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن قطاع غزة المُحاصر يمثل الآن الجبهة المثالية لتوجيه رسائل الردع العملياتي لكل الجبهات الأخرى التي تهدد أمن إسرائيل بما فيها حزب الله وسوريا والعناصر الفلسطينية المسلحة في الضفة الغربية وكذلك فلسطيني الداخل الذين يتضامنون مع قضيتهم ويتحينون الفرصة لتنفيذ عمليات انتقامية ضد الإسرائيليين والمستوطنين اليهود.
الدول المستفيدة!
على رأس الدول المستفيدة من الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس تأتي روسيا والصين وإيران. لكن روسيا هي الأكثر استفادة لأن حرب غزة باتت تصرف أنظار المجتمع الدولي عن العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، مما يضمن لروسيا تحقيق أكبر المكاسب على حساب حلف الناتو والغرب عموما. وبعد الدعم العسكري الأمريكي اللا محدود لإسرائيل بمجرد تعرضها للهجوم من جانب حماس، أدرك بوتين أن بمقدوره مواصلة الحرب على أوكرانيا التي لا تحظى بالدعم الكافي من واشنطن.
تداعيات إقليمية:
إن الحرب الجنونية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة دون مراعاة للقوانين الدولية أو احترامٍ لحقوق الإنسان ستخلف تداعيات خطيرة ومنها:
1- تغيير ملامح الشرق الأوسط:
بالنسبة لإسرائيل فإن العدوان الذي تشنه ليس مجرد جولة من القتال مع المقاومة الفلسطينية، بل هي حرب فاصلة ليس فقط ضد حماس بل ضد الشعب الفلسطيني كله، إن لم يكن ضد العرب جميعا، بمعنى أن الصراع بات صراعًا حضاريًا بين العرب واليهود. وتمثل الحرب على غزة نقطة فارقة وفرصة سانحة ربما لن تتكرر أمام إسرائيل لتغيير ملامح الشرق الأوسط وإعادة توازنات القوى الإقليمية عبر فرض نظام إقليمي جديد يقوم على نزع أسلحة جميع حركات الإسلام السياسي وفي مقدمتها حماس والجهاد، وتمكين إسرائيل من لعب دور الوكيل الأمريكي في المنطقة، نظرا لانشغال الولايات المتحدة بملفات أخري وعلى رأسها التصدي لتمدد النفوذ الصيني وإحباط الهجوم الروسي على أوكرانيا.
2- تهديد اتفاقيات السلام والتطبيع:
ستؤدي الكارثة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة وإعادة احتلاله، إلى تداعيات سياسية واستراتيجية خطيرة على دول الجوار والمنطقة بأثرها، ومنها تهديد اتفاقيات السلام مع مصر والأردن بسبب النوايا الإسرائيلية الخبيثة ومحاولة تهجير الفلسطينيين لسيناء والأردن. كما أن تداعيات الحرب على غزة ستعيق التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب وستجمد محاولات التطبيع بين تل أبيب والرياض إلى أجل غير مسمى، خاصة بعد أن أدركت دول الخليج أن إسرائيل لم تتمكن من حماية أمنها أمام حركة مقاومة ظلت تحت الحصار لفترة طويلة.
كما أن الحرب الحالية وما سيعقبها من عدم استقرار في المنطقة سيعرقل إقامة المشاريع الاقتصادية الكبري وعلى رأسها مشروع الممر الملاحي الدولي الطموح الذي سيربط الهند بأوروبا، مرورا بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل.
3- مصر ومشكلة غزة:
تحاول تل أبيب جاهدةً إقحام مصر في مشكلة قطاع غزة وهناك سيناريوهان إسرائيليان مطروحان في هذا الشأن:
الأول: يتمثل في التهجير القسري لأهالى غزة إلى شبه جزيرة سيناء، عبر ترحيل أهالي غزة من شمال ووسط القطاع إلى جنوبه ثم تكثيف الهجمات عليهم لدفعهة لاقتحام الحدود إلى سيناء لتصبح مصر أمام الأمر الواقع فتقبل باستيعاب سكان القطاع في سيناء مقابل مساعدات مالية. ولكن مصر ترفض ذلك المخطط الإسرائيلي لأنه يهدف إلى تهديد الأمن القومي المصري وتصفية القضية الفلسطينية.
الثاني: ويراه بعض الإسرائيليين الخيار الأمثل كي تتخلص حكومات تل أبيب مرة واحدة وللأبد من قطاع غزة، وذلك عبر إعادة القطاع إلى السيادة المصرية كما كان عليه الحال منذ عام 1831، عندما قام إبراهيم باشا بالسيطرة على أجزاء من بلاد الشام بعد حملته إلتى شنها ضد العثمانيين. وظل القطاع تحت السيادة المصرية حتى نكسة 67. وبحسب زعم الإسرائيليين فإن مصر أطلقت عام 1948 الصفة الفلسطينية على القطاع في إطار رفضها للصهيونية ولإقامة الدولة العبرية. ووفق هذا السيناريو يمكن لبعض الدول ومنها إسرائيل مساعدة مصر بـ 50 مليار دولار لقبول الفكرة.
3- استبعاد فكرة التحالف السني ضد إيران:
إن العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة وعدم تلبية مناشدات الدول العربية لوقف إطلاق النار وتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين سيجعل الدول العربية السنية تعيد حساباتها في التطبيع مع إسرائيل، فضلًا عن رفض فكرة إنشاء تحالف سُني يضم إسرائيل في مواجهة إيران. كما أن الضربة الموجعة التي وجهتها حماس لإسرائيل يوم السابع من أكتوبر 2023، ستدفع دول الخليج وعلى رأسها السعودية لتعزيز علاقاتها مع إيران.
4- إحراج الموقف التركي:
لقد ظلت تركيا منذ بداية حُكم الرئيس أردوغان تبدو وكأنها أهم ظهير يدعم حركة حماس، ولا ننسى أسطول الحرية – بمشاركة سفينتين تركيتين – الذي توجه إلى غزة في عام 2010، لكسر الحصار عن القطاع وما خلف من أزمة شديدة في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب.
لكن تركيا الآن باتت في وضع مختلف عن ذي قبل، لأنها تواجه ملفات متشابكة مثل موقفها من حرب أوكرانيا وعلاقاتها مع روسيا وخلافاتها مع الولايات المتحدة في شمال سوريا. إلى جانب دعمها لأذربيجان ضد أرمينيا على حساب الغرب وإيران. كما أن تركيا التي سعت لتصفير مشاكلها وتحسين علاقاتها مع الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل واليونان، لنيل حصة من الثروات النفطية في شرق المتوسط، ستتردد كثيرا قبل إقدامها على أية خطوة غير محسوبة ضد إسرائيل لنصرة حماس في هذه المرحلة وستحاول إمساك العصا من الوسط.
5- عودة التدخل الأمريكي في المنطقة:
منذ انسحاب القوات الأمريكية من العراق والقضاء على تنظيم داعش في سوريا، تراجع التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، مما أدى إلى ترك فراغ بالمنطقة شغلته روسيا والصين. لكن الهجوم الذي نفذته حركة حماس والخسائر غير المسبوقة التي تكبدتها إسرائيل قد غير حسابات واشنطن وجعلها تعاود التدخل من جديد في شؤون الشرق الأوسط، فأرسلت حاملتي طائرات وقوات أخرى لدعم إسرائيل، ووجهت رسائل التهديد لطهران وحزب الله لعدم التدخل في الحرب.
6- إيران بين خيارين!
إن ما حققته حركة حماس من إنجاز عسكري في هجماتها على إسرائيل يثلج صدر القيادة الإيرانية، إذ تعتبر ذلك دليلا على ضعف الكيان الإسرائيلي الذي كثيرًا ما يهدد بضرب منشآتها النووية، ولكن إيران تخشى من الاقتحام البري لقطاع غزة وإسقاط حركة حماس، لذا فهي تحُضُّ تنظيم حزب الله اللبناني على إطلاق القذائف والصواريخ على شمال إسرائيل لمجرد التخفيف عن قطاع غزة، دون إقحامه في حرب شاملة مع إسرائيل. وتبذل طهران المساعي الدبلوماسية مع الدول المعنية لحشد الدعم للمقاومة في غزة والإسراع بانهاء الحرب من أجل الحفاظ على انجازات حماس العسكرية.
وليس من مصلحة إيران، على الأقل في المرحلة الحالية، الزج بتنظيم حزب الله في أتون الحرب مع إسرائيل حتى يظل الحزب الذي يمثل ذراعها العسكرية في المنطقة بكامل قوته وكفاءته. ورغم التحذيرات والتهديدات الأمريكية إلا أن إيران قد تضطر لإقحام حزب الله في الحرب لفتح الجبهة الشمالية مع إسرائيل حتى لا تسقط غزة التي باتت تمثل ركيزة مهمة ضمن ركائز الهيمنة الإيرانية بالمنطقة. معنى ذلك أن استمرار الحرب على غزة يجعل إيران أمام خيارين كما يلي:-
الأول: امتناعها عن إشراك الميليشيات الموالية لها – في سوريا والعراق وجنوب لبنان واليمن- في تلك الحرب سيتيح لإسرائيل الهيمنة على غزة وتدمير قدرات حماس، وهذا سيُضعف حلف إيران.
الثاني: المشاركة القوية لتنظيم حزب الله في الحرب ضد إسرائيل من شأنها أن تدمر الكثير من قدراته العسكرية. وهذا ليس في صالح طهران لأن التنظيم اللبناني يمثل القوة الأمامية لإيران لردع إسرائيل ومنعها من ضرب منشآتها النووية.
سيناريوهات
وفي التقدير تكثيف إسرائيل عملياتها العسكرية بالقطاع، مع التخطيط لتطبيق الإجراءات والسياساتلتعزيز قبضتها عليه، وهو ما يمكن إنجازه على النحو التالي:-
1- مراحل الحرب..
بعد 20 يوما من شن عملية طوفان الأقصي،يمكن توصيف مراحل العدوان الإسرائيلي كما يلي:-
أ- المرحلة الأولى من الحرب وتركز فيها على قتل أكبر عدد من مقاتلي حماس والجهاد وتدمير البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية في غزة.
ب- المرحلة الثانية وستكون انتقالية وستتسم بقلة الغارات ولكنها ستركز على تدمير ما تبقى من جيوب للمقاومة الفلسطينية.
ج- المرحلة الثالثة وتشمل إقامة نظام حكم عسكري جديد في القطاع وفق معايير أمنية جديدة وصارمة من أجل توفير الحماية التامة للمواطنين الإسرائيليين وجميع المستوطنين في منطقة غلاف غزة.
2- عودة الاستيطان لقطاع غزة!
هناك مخاوف لدى الخبراء والمتخصصين سواء من الإسرائيليين والغربيين جراء عدم وجود استراتيجية إسرائيلية واضحة لما بعد انتهاء الحرب والسيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة. وتتمثل تلك المخاوف في نوايا الحكومة اليمينية المتطرفة بزعامة نتنياهو ومشاركة وزراء الصهيونية الدينية، للإبقاء على القطاع تحت السيادة الإسرائيلية وعدم إخضاعه للسلطة الفلسطينية. وبالفعل هناك يمينيون يستعدون من الآن لإعادة الاستيطان اليهودي للقطاع والمسارعة بإعمار مستوطنات جوش قطيف التي أخلاها شارون عام 2005 ضمن خطة فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية.