انتهت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل بجيشها النظامي والمقاومة الفلسطينية بمختلف أذرعها، بعد مواجهات استمرت 11 يومًا، تغيرت فيها قواعد المواجهات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ظهور قواعد جديدة للاشتباكات والمواجهات، تحركات من بلدات الداخل الواقعة تحت سيطرة الاحتلال، ولم تكن التغيرات في شكل المواجهات المباشرة فقط، بل هناك مواجهات أخرى خلف الكواليس، أحدثت ضجة في شكل الصراع، حيث أدى إلى ظهور لقوى إقليمية ودولية، تحرك وتتحكم في مسألة إنهاء الصراع، أو بوصف أقل حدة؛ تساعد في الطريقة التي يجب أن ينتهي بها الصراع والحرب بين إسرائيل وحماس وباقي الفصائل، حتى من يساعد حماس، ويطرح المركز المصري للدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم الوطنية، هذا التساؤل، حول دور القوى الإقليمية والدولية في شكل الصراع الأخيرة من بدايته وحتى نهايته.
الصين وتغيير قواعد اللعبة
لا شك أن الصراع المحتدم لبسط النفوذ العالمي بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والصين مشتعل في كافة الجبهات، ورغم أن الصراع الاقتصادي هو المسيطر على شكل السجال بين واشنطن وبكين، لكن التحالفات والسيطرة السياسية أمر لا يقل أهمية عن الاقتصاد، وفكرة تقوية الصين لتحالفاتها في المنطقة زاد بشكل كبير في الآونة الأخيرة، لتقويض النفوذ الأمريكي قدر المستطاع.
على
الرئيس الصينى “شى جين بينج” يصافح الرئيس الفلسطينى “محمود عباس” – أرشيفية
وما يهمنا في هذا الصدد هو الموقف الصيني من القضية الفلسطينية، ومعروف الانحياز الأمريكي لتل أبيب، والتحالف الدائم مع إسرائيل، لذا اقتربت الصين من ملف القضية الفلسطينية في الفترة الأخيرة، وشنت هجومًا دبلوماسيًا على السياسات الأمريكية تجاه القضية، وهنا تقترب الصين من الدول المتنازعة مع الصين لتكوين تحالفات، وخاصة مع الجانب الروسي، وأهم ما انتهجته الصين هو الميل إلى سياسة الجمع بين الضدين، فقامت بزيارات وتقارب مع السعودية وإيران، وتأييد الرئيس السوري بشار الأسد، وهنا يراهن الجانب الصيني على تقوية الجانب الإيراني لعمل توازن في المنطقة، فيتم المساندة لإيران في العراق واليمن، لتحقيق توازن في المنطقة، والتوازن هنا بين تركيا وإيران على سبيل المثال في العراق، وبالعودة للتحالف الصيني مع روسيا، فقد أسفر عن اعتزام روسيا لتبني محادثات مباشرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ما يؤكد تراجع النفوذ الأمريكي في هذه النقطة، وهو ما تريده الصين، وبالتبعية كان الموقف الصيني في الحرب الأخيرة بين غزة وإسرائيل.
وكشفت الصين في السادس عشر من شهر مايو الجاري، أثناء جلسة مجلس لمناقشة التوتر بين إسرائيل وفلسطين في الحرب الأخيرة عن موقف الخارجية الصينية الذي يطالب بوقف اطلاق النار والعنف، كما حثت إسرائيل على ضبط النفس، ووقف الاعتداءات على الفلسطينيين بشكل فوري، كما عبرت عن انتقادها لتجاهل الولايات المتحدة الامريكية لمعاناة الشعب الفلسطيني، وهو ما ظهر في بعض العبارات التي تضمنها مشروع البيان والذي يتضمن إدانة إسرائيل لأنه حمل كلمة “وخاصة إسرائيل” فيما يتعلق بضبط النفس ووقف العدوان، وعبارات أخرى مثل “وضع حد للعنف والتهديدات والاستفزازات ضد المسلمين، والحفاظ على الوضع التاريخي للمعالم المقدسة في القدس واحترامها، حيث يعكس تحليل مشروع البيان الموقف الصيني تجاه إسرائيل والولايات المتحدة، والذي يؤكد موقف الصين من القضية الفلسطينية بأن «القضية الفلسطينية كانت على الدوام جوهر قضية الشرق الأوسط».
ولا شك أن خروج مسيرات في حوالي 17 ولاية أمريكية، للتنديد بالعدون الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني قد ساهم في ممارسة الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل وقف اطلاق النار، حيث وبدأت الاحتجاجات بدعوة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، في أكبر شوارع نيويورك، ورفع المحتجون لافتات تندد بالعدوان الإسرائيلي، واحتج بعض الإسرائيليين على المتظاهرين، ونزعوا الأعلام الفلسطينية منهم، الأمر تكرر في ولاية نيوجيرسي، حيث طالب مئات المحتجين إدارة بايدن باتخاذ خطوات ملموسة ضد إسرائيل، واللافت مشاركة أعضاء كونجرس أمريكيين في الاحتجاجات، وانتقدوا سياسة الكيل بمكيالين التي تتبعها الولايات المتحدة، وقد شكلت هذه المحاولات ضغطًا على إدارة بايدن التي تحركت مع الجانب المصري لوقف العدوان الإسرائيلي والتوصل لهدنة غير مشروطة لوقف اطلاق النار.
الخلاصة فيما يتعلق بالصين والحد من النفوذ الأمريكي
لعبت الصين دورًا مهمًا في التوترات الأخيرة بين إسرائيل والجانب الفلسطيني، ومواقفها كانت معلنة بانها ضد العدوان الإسرائيلي المستمر في فلسطين، وتتبنى بكين مواقف مضادة للسياسة الأمريكية خاصة في الدعم غير المحدود من واشنطن لتل أبيب، فساعد الموقف الصيني بشكل مباشر وغير مباشر في تقويض والحد من اليد الطولى للولايات المتحدة الأمريكية في جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر منذ عقود.
دول أخرى تحركت ضد إسرائيل لوقف العدوان
لا يمكن اغفال التحركات والتغيرات الإقليمية والدولية فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فأُثناء العدوان الأخير، تحركت العديد من الدول ضد إسرائيل وضد التباطؤ الأمريكي في وقف اطلاق النار، ففي لندن شهدت العديد من الاحتجاجات تندد بالعدوان الإسرائيلي، حيث نظم أعضاء “الشبكة اليهودية الدولية المعادية للصهيونية” و”الشبكة اليهودية من أجل فلسطين“، وقفة احتجاجية أمام مكتب شركة الدفاع الإسرائيلية “إلبيت سيستمر، حيث رفع المحتجون لافتات كتب عليها عبارات “أوقفوا المجازر الإسرائيلية” و”أوقفوا إسرائيل دولة الإرهاب”، ورددوا هتافات من قبيل “فلسطين حرة”.
الأمر نفسه تكرر في إسبانيا حيث نظم مجموعة من المحتجين الإسبان والفلسطينيين وقفة أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة مدريد، كما ردد المحتجون هتافات: “إسرائيل القاتلة”، و”أوقفوا الإبادة الجماعية”، و”لا لإرهاب دولة إسرائيل”، “تحيا فلسطين”، كما رفعوا لافتات تضمنت عبارات من قبيل: “العدالة من أجل فلسطين”.
وفيما يتعلق بموقف الدول الإفريقية، فقد شهدت جوهانسبرج، أكبر مدن جنوب إفريقيا وقفة؛ احتجاجاً على الهجمات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وغزة، بدعوة من فرع حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) في جنوب إفريقيا، نظم المحتجون وقفة أمام مكتب التجارة الإسرائيلية في المدينة، كما دعا المحتجون إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين” أثناء لقائه مع نظيره الفلسطينى “محمود عباس” – أرشيفية
الدور الروسي والحد من النفوذ الأمريكي
لا بد من القول بأن روسيا لا تعتبر حماس تنظيمًا إرهابيًا كما تعتبره إسرائيل وحلفائها، ورغم ذلك فإن الموقف الروسي من إسرائيل لا يشبه الموقف الصيني بشكل كامل، حيث تنتهج موسكو سياسة الانتقاد لإسرائيل لكن ليس بشكل علني دائم، هناك ادانة من الجانب الروسي على سبيل المثال في الحرب الأخيرة للعنف من الجانبين، لكن لا يعني ذلك أن روسيا توافق على السياسات الإسرائيلية، بل تسعى لتحقيق مصالحها في إطار ما يطلق عليه المقايضة بالملفات في ظل سعيها لتعزيز نفوذها وسيطرتها على الساحة السورية، ومواجهة النفوذ الإيراني بها، وتحاول روسيا تقويض النفوذ الأمريكي في المنطقة، وبالتبعية النفوذ الإسرائيلي، في ظل تزايد قوة نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، وهو ما يؤثر على مصالح تل أبيب وواشنطن وأمنهما القومي، خاصة في ملف سوريا وإيران وسيطرة روسيا السيبرانية والتكنولوجية، لا سيما وأن روسيا أصبحت لاعب عسكري ودبلوماسي مهم في الشرق الأوسط، كما ظهر منذ تدخل موسكو في سوريا لانهاء الحرب منذ 2015، كما سعت لتوسيع نفوذها في المنطقة، والحفاظ على مصالحها وتوازن القوى بالإقليم
بالطبع فإن الموقف الروسي والصيني ساهما بشكل كبير في ان يكون الحسم ليس فقط للولايات المتحدة الأمريكية بل للصين وروسيا.
تركيا بين المطرقة والسندان
لا يخفى على أحد أن تركيا بذلت مجهودات كبيرة حتى تُصدر للجميع صورة أنها المدافع الأول عن حقوق الفلسطينيين، بل منذ تدهور العلاقات مع إسرائيل إثر حادث أفي مرمرة في 2010، حاولت تزعم المشهد بالدفاع عن قضية القدس والأقصى في حملة إعلامية ضخمة، استغلت فيها منصاتها الرسمية، وغير الرسمية، ونتيجة الأزمات الاقتصادية المتعاقبة التي مرت بها أنقرة، حاولت من جديد العودة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل كما كانت قبل 2010، وتعول تركيا على بايدن في تحريك المياه الراكدة “ظاهريًا” بين إسرائيل وتركيا من أجل عودة العلاقات، وهناك بالطبع تحفظات كبيرة وموانع لدى إسرائيل، منها اعتراضها على استقبال تركيا لوفود من حماس، وبيانات متكررة تندد بالعنف الإسرائيلي.
ولا شك فإن إشادة مختلف القوى الدولية بالدور المصري، جعل تركيا تشعر بتراجع دورها، فلم تعد أنقرة التي رسمت لنفسها دور جيوسياسي كبير في المنطقة اللاعب الأهم، كما أن الاستجابة الإسرائيلية الفورية للطلب المصري، بهدنة غير مشروطة أكد على تراجع تأثير أنقرة في ملف القضية الفلسطينية، كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يعد قادرًا على امتلاك زمام الرأي العام التركي بسبب الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، والفشل في السيطرة على أزمة كورونا، أدت إلى تراجع دوره كمحرك للإسلاميين والرأي العام نحو القضايا الأقليمية مثل القضية الفلسطينية، بالتوازي مع محدودية قدرة الحكومة التركية على التأُثير في حدود مواقف الجانب الأمريكي أو الإسرائيلي بل واتهام أردوغان بأنه معادٍ للسامية، ومن ثم تراجع قدرة اردوغان على إحداث تحريك للرأي العام ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، إضافة إلى انحسار الدور التركي في ملف القضية الفلسطينية.
جانب من لقاء الرئيس المصرى “عبدالفتاح السيسى” بوزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” لمناقشة مستجدات القضية الفلسطينية – أرشيفية
الجانب المصري اللاعب الأهم
لا شك أن الدور المصري في المنطقة بات واضحًا، فمصر تتدخل لانهاء الصراع في ليبيا، والعمل بشكل واضح على اخراج المرتزقة من الأراضي الليبية، وحظيت الخطوات المصرية على تأييد عالمي واقليمي، وبالتبعية الموقف المصري كان واضحًا في المشاركة في محاربة القرصنة البحرية والحفاظ على المياه الدولية والإقليمية، كما أن دور مصر واضح في محاربة الإرهاب، والحد من انتشاره في دول المنطقة.
تعاظم الدور المصري في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وغزة، بل كانت الوساطة المصرية والمقترح المصري هو القول الفصل في انهاء الصراع وعملية حامي الأسوار الأخيرة، وما يدلل على قوة الدور المصري، هو سعي الولايات المتحدة الأمريكية للتواصل مع مصر، وهو ما اتضح في الاتصال الذي جمع الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وبعد المكالمة التي جمعتهما الخميس، وهو اليوم الأخير في الحرب، تم الإعلان عن هدنة غير مشروطة بوقف فوري لإطلاق النار، فضلا عن توجيه الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته أنتوني بلينكن على توجيه الشكر للسيد الرئيس السيسي على جهوده للتوصل التهدئة، ووقف العمليات العسكرية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني.
ورغم تراجع الدور الأمريكي بشكل عام على مستوى الإقليم خلال فترة تولي الإدارة الأمريكية الجمهورية السابقة بقيادة دونالد ترامب، والتي أدت إلى زيادة مساحة الدور والنفوذ الروسي والصيني في المنطقة، إلا أن الإدارة الحالية ستحرص على استعادة دورها، لا سيما وأن أية تحركات سياسية ودبلوماسية لاستئناف عملية السلام بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني سترتبط بمدى مساندة الولايات المتحدة لها، ومن ثم ترجيح قيام واشنطن بتكثيف جهودها لاستئناف جهود التسوية السياسية في الشرق الأوسط، والتي بدأت مظاهرها بقرار الرئيس الأمريكي إعادة تفعيل القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وبالتالي التراجع عن بعض القرارات التي سبق واتخذها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
الدور الإيراني في الحرب الأخيرة
بداية المواجهات الأخيرة كانت بإطلاق صاروخ طويل المدى، وبتوجيه من الحرس الثوري الإيراني، وتم اطلاقه من غزة صوب القدس المحتلة، وذلك من الجهاد الإسلامي بتعليمات إيرانية، ما يبرهن على العلاقة بين حماس وفصائل المقاومة التابعة لها بإيران، وفي تصريح إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، السبت 29 مايو، قال فيه: “أطلقنا” آلاف “الصواريخ” على إسرائيل خلال المواجهة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، واعترف قاني بأن عدد الصواريخ قدر بثلاثة آلاف، وبالنظر إلى اعتراف الجيش الإسرائيلي بإطلاق 4 الاف صاروخ على المناطق الإسرائيلية، هذا يعني أن 3 الاف منها كان من إيران بشكل غير مباشر.
وترى إيران أنها انتصرت على إسرائيل، وقللت من شأن القبة الحديدية الإسرائيلية، حتى أن الحرس الثوري الإيراني دعا المواطنين الإسرائيليين إلى إعادة شراء منازلهم في أوروبا وأمريكا والتفكير في مغادرة فلسطين.
يبدو أن حركة حماس لا تستطيع انكار دور إيران، حيث تتلقى الأموال والدعم الكبير منها، وفي هذا الصدد وجهت حماس الشكر للمرشد الإيراني، وكشف قادتها عن وجود مستوى كبير من التنسيق مع إيران خلال حرب الأيام ال11 الأخيرة، حتى أن يحيى السنوار كشف عن وجود تنسيق كبير بين كتائب القسام والحرس الثوري وحزب الله اللبناني في عملية حارس الأسوار الأخيرة.
وفي وقت سابق أعلن قائد الحرس الثوري الإيراني، اللواء حسين سلامي، عن دعم بلاده لـ”حرب الفلسطينيين” ضد إسرائيل، معتبرا أنه لم يبق أي مكان آمن لأي “صهيوني” في الأراضي المحتلة.
بشكل عام من الصعب القول بأن الدور الإيراني في غزة تراجع، حيث لا تستطيع حماس انكار ذلك، وتفتخر إيران بأنها تدير حربًا بالوكالة ضد إسرائيل من الأراضي الفلسطينية، وتفتخر حماس وتشكر إيران وبشكل دائم على الدعم المادي واللوجيستي لها في تسليحها عسكريًا.
 
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version