أعلن الجيش السوداني انشقاق أحد أبرز قادة قوات الدعم السريع وقائد قواتها بولاية الجزيرة “أبو عاقلة كيكل” وعددٍ كبير من قواته، وانضمامه إلى صفوف الجيش والقتال إلى جانبهم، ويُعتبر هذا الانشقاق ضربة عسكرية ومعنوية قوية لقوات الدعم السريع التي تسيطر على أجزاء كبرى من الولاية وتتواجد بكثافة بها منذ دخولها الولاية نهاية عام 2023، وجاء ماسبق في إطار متغيرات ميدانية لصالح الجيش السوداني وانتصارات متتالية له على شتى الجبهات، في ضوء سعيه لاستعادة الاستقرار والسيطرة على الأراضي السودانية، فقد شن مؤخرًا هجوما على 4 محاور تابعة لقوات الدعم السريع بالقرب من مدينة “الفاو” في ولاية “القضارف”، وقد استهدف الهجوم طرد قوات الدعم السريع، التي تسيطر على ولاية الجزيرة، خاصةً أبرز مدنها الفاو وجسر دوبا والخياري وميجر خمسة، وحقق خلاله تقدمًا ملحوظًا، وسيطر الجيش على بلدات حفيرة والنفيدية والبويضاء وغيرها، واقترب من بلدة “شبارقة” الاستراتيجية، مما اضطر قوات الدعم السريع للتراجع.
تقع ولاية الجزيرة وعاصمتها “ود مدني” في وسط السودان، وتتميز بموقعها الاستراتيجي، كونها أكبر مصدر غذائي واقتصادي في السودان، وتذخر بمواردها البشرية والطبيعية وبنياتها التحتية، كانت تعتمد عليها قوات الدعم السريع في توفير الغذاء والسلع الاستراتيجية وتوزيعها على الولايات الأخرى.
وفي تطور سريع للمشهد السوداني، أعلن (5) من أعضاء المجلس الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع انشقاقهم، وانحيازهم إلى الجيش السوداني، وذلك بعد أيام قليلة من انشقاق “كيكل”، حيث كانوا يُمثلون القوة الضاربة لقوات الدعم السريع بصفتهم رؤساء قطاعات منظمات المجتمع المدني والإعلام والتخطيط الإستراتيجي والقطاع القانوني واللجنة الإستراتيجية العليا، ومسؤولين عن ملفات مُهمة مثل ملف شرق السودان والإعلام الرقمي والإدارة الفنية وشباب القبائل.
أرشيفية
وتأتي تحركات الجيش السوداني نتيجة لتطورات جوهرية شهدها خلال الفترة الأخيرة، أولها إعداد رؤية استراتيجية للموقف العسكري، وثانيًا استعادة المهنية العسكرية في إدارة المعارك الميدانية، وحسن التنسيق والتكامل بين الأسلحة والتشكيلات المختلفة، وثالثًا تفعيل دور القوات الجوية والمسيرات في دعم جهد القوات البرية، وذلك بعد تعزيز قوتها نتيجة لنجاح عمليات الإصلاح والصيانة، ودعم سلاح المسيرات وتوفير الذخائر، وتوفير بعض التسهيلات العملياتية، فمعركة تحرير الخرطوم وانشقاق قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة مؤخرًا وما يتبعه من تطورات الأوضاع في السودان، قد يقلب موازين القوى لصالح الدولة السودانية، ويؤثر إيجابيًا على تموضع القوات السودانية في سير العمليات العسكرية ضد قوات الدعم السريع، الأمر الذي أدى إلى توقع المحللين انهيار قوات الدعم السريع بعد الهزائم المتكررة التي مُنيت بها، بالتزامن مع انخفاض حجم الدعم العسكري وأعداد المرتزقة المشاركين في صفوف الدعم السريع بعد وقف الإمدادات القادمة من تشاد، بعد أن كانت تُنقل أسبوعيًا من طائرات الشحن في مطار “أم جرس” في تشاد، وتُسلّم إلى قوات الدعم السريع على الحدود السودانية، وكذا وجود بعض الصعوبات في استخدام منطقة “أم دافوق” على الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى كخط إمداد رئيس ومركز تجنيد مقاتلين جُدد لميليشياتها، وتوقف الإمدادات القادمة عبر الجسر الجوي المخصص لنقل العتاد العسكري من مطار “بنينا” في بنغازي إلى مطار “الكفرة”، إلى قوات الدعم السريع في إقليم دارفور عبر الحدود، وهذا وفق ما أكده تقرير أعده خبراء في مجلس الأمن الدولي.
جاء تفوق الجيش السوداني عقب قيام الخرطوم في شهر مارس الماضي بتقديم شكوى رسمية في مجلس الأمن الدولي لاتخاذ إجراءات لإجبار دولة الإمارات على التوقف عن دعم ورعاية قوات الدعم السريع،والوقف الفوري لتجنيد المرتزقة والدعم العسكري واللوجستي إلى قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها، والكف عن التدخل في الشؤون الداخلية للسودان، وعززت شكواها بتقديم أدلة تُفيد بتورط الجانب الإماراتي في الاستمرار بقتل أبرياء من الشعب السوداني، وقيامها بعلاج أفراد قوات الدعم السريع المصابين أثناء المعارك في مستشفى زايد العسكري بأبوظبي، كما طالبت السودان دولتي تشاد وأفريقيا الوسطى بوقف تنفيذ مخطط العدوان على السودان، ووقف التجنيد للمقاتلين الشباب في أراضيهما لحساب قوات الدعم السريع، والسماح للمرتزقة بالمرور عبر أراضيهما، واحتضانهم وإيواء الجرحى ونقل الأسلحة إلى قوات الدعم السريع في دارفور وغيرها، وفي المقابل نفت الإمارات المزاعم السودانية المتعلقة بدعم قوات الدعم السريع.
وقد جدد رئيس مجلس السيادة السوداني العفو عمّن يسلم نفسه لأقرب قيادة عسكرية بكل مناطق السودان، وترحيب الجيش بهذه الخطوة الشجاعة، مؤكدًا على أن أبوابه ستظل مفتوحة لكل من ينحاز إلى صف الوطن وقواته المسلحة، لاسيما مع استمرار تقدم الجيش السوداني في مناطق وسط الخرطوم وشماله وأم درمان وولاية سنار وسط السودان، حيث أن استكمال السيطرة على شرق ولاية الجزيرة، سيُمكّن الجيش من التقدم والسيطرة على شرق النيل في العاصمة السودانية الخرطوم، ورغم ردود الأفعال الشعبية بولاية الجزيرة المُرحبة بانضمام “كيكل” للجيش السوداني، واعتبارها خطوة مهمة في طريق استعادة الأراضي السودانية، وهزيمة قوات الدعم السريع في مناطق مختلفة، عبر البعض منهم عن استيائه من قرار العفو عنه وعن معاونيه الذي صدر من قيادة الجيش السوداني، فيما طالب آخرون بمحاكمته على خلفية اتهام قواته بارتكاب انتهاكات وجرائم ضد الإنسانية في ولاية الجزيرة، التي أدت إلى مقتل وإصابة الآلاف من المدنيين العزّل، بجانب نهب ممتلكاتهم، وتهجير مئات الآلاف من الولاية إلى ولايات أخرى.
لا يوجد حتى الآن رد فعل من جانب الحركات الدارفورية المسلحة الموقعة على اتفاق “جوبا للسلام” والتي انضمت لجانب الجيش السوداني على انشقاق “كيكل” أو التعليق على انضمامه للجيش السوداني، حيث أعلنت نهاية العام الماضي، إنهاء الحياد ومشاركتها في العمليات العسكرية مع الجيش السوداني، وأدانت انتهاكات قوات الدعم السريع وما وصفته بالممارسات المعادية للوطن والمواطن والجرائم ضد الإنسانية بما فيها حق الحياة، تمسكًا بوحدة السودان، وعدم السماح بأن تكون دارفور بوابة لتفكيك السودان، وقد نفت مؤخرًا حركتان دارفورتان مسلحتان مواليتان للجيش السوداني التسريبات المتضمنة اتهامهما بتلقي أموال، والمطالبة بنصف السلطة، وبكميات كبيرة من الأسلحة والعتاد العسكري، مقابل مشاركتهما في القتال إلى جانب الجيش السوداني، وأكدتا أن قتالهما مع الجيش واجب ومسؤولية وطنية، واعتبرت الحركتان أن من قام بتسريب تلك المعلومات يستهدف إحداث الوقيعة بين الجيش السوداني والحركات الدارفورية، في إطار إضعاف الروح المعنوية لهما، ومحاولة خلق حالة من الجدل والانقسام في الشارع السوداني مفاداها أن الجيش السوداني يقوم بعقد صفقات مريبة مع الجبهات المتحالفه معه، وإعطائهم مزايا في السلطة والجيش، مقابل الانفراد بالحكم.
وعلى جانب آخر، قامت وزارة الخزانة الأميركية مطلع شهر أكتوبر الجاري بفرض عقوبات على “القوني حمدان دقلو” الشقيق الأصغر لقائد قوات الدعم السريع، لتورّطه في شراء أسلحة لمواصلة الحرب في السودان، وارتكابه مجازر ضد المدنيين، وجاءت تلك العقوبات بعدما فرضت مثيلاتها على “عبد الرحيم دقلو”، الشقيق الآخر لـ”حميدتي”، وترفض واشنطن حتى الآن دعوات لفرض عقوبات على “حميدتي” نفسه لمزاعم بارتكاب قواته انتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق مثل دارفور.
وبتحليل الوضع الراهن نستطيع رسم بعض السيناريوهات وهي:
السيناريو الأول: استمرار عمليات انشقاق قادة ومستشاري قوات الدعم السريع، وهذا سيناريو ربما قد يكون مُرجحًا على المدي القريب، في ظل دعوة الجيش السوداني جميع المتمردين للتوجه لأقرب وحدة عسكرية تابعة للجيش السوداني، مما قد يساعد في الإسراع من حسم الصراع الدائر.
السيناريو الثاني: محاولات الجيش السوداني الإسراع من وتيرة العمليات العسكرية ضد قوات الدعم السريع لتحرير ولاية الجزيرة بأكملها، ومن ثَم الانتقال إلى مناطق أخرى، وهذا سيناريو قد يكون مُرجحًا على المدى المتوسط، في ضوء ما يتوافر من معلومات لدى “كيكل” والمستشارين المنشقين، وقد يكون ذلك السيناريو استكمالًا للسيناريو الأول ويُعجل به إذا ما زادت حالات الانشقاق.
السيناريو الثالث: استمرار الصراع العسكري الدائر بين الجيش السوداني وحلفائه من الحركات المسلحة من ناحية وقوات الدعم السريع من ناحية أخرى لأمد طويل نسبيًا، ومحاولات كل منهما استقطاب أكبر عدد ممكن من الأطراف سواء المحلية أو الإقليمية لدعم موقفهما الميداني، وقد يكون هذا السيناريو مُحتملًا على المدى القريب.
التداعيات على الدولة المصرية
لا شك أن الدولة المصرية لا تدخر جهدًا في إيجاد حلول للأزمة السودانية، باعتبارها إحدى دوائر الأمن القومي المصري، وقيامها بمجهودات مُضنية لإرساء دعائم الاستقرار في السودان، بما يسمح بعودة السودانيين إلى بلادهم، وفي خضم تلك الأحداث حال استمرار الأوضاع في السودان والمعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وتحقيق أي سيناريو، فقد ينتج عن تلك الأحداث تداعيات قد تُعيق عملية عودة السودانيين المتواجدين بمصر، مما يفسر احتمالية تمديد الحكومة المصرية فترة توفيق أوضاع السودانيين عامًا آخر، حتى يتمكن خلاله قطاع واسع منهم من العودة للوطن، وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، فقد قامت مصر، بصفتها الرئيس الحالي لمجلس السلم والأمن الأفريقي، بعقد اجتماعات مكثفة بين وفد رفيع المستوى ومسؤولين سودانيين، لبحث سبل وقف الحرب المستمرة في البلاد، وعلى إثره قام وفد من المجلس ببعثة ميدانية إلى بورتسودان مطلع الشهر الجاري، وطلب مجلس السلم والأمن الإفريقي في بيان أصدره رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي إعادة فتح مكتب الاتصال التابع للاتحاد الأفريقي في مدينة بورتسودان المقر الحالي للحكومة السودانية تمهيدًا لعودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي ووقف تجميد عضويتها، ورحب باستعداد رئيس مجلس السيادة الانتقالي لتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، الأمر الذي انتقده البعض، خاصةً تنسيقية القوى المدنية “تقدم”، حيث اعتبرته الأخيرة محاولة لمنح القوات المسلحة اليد العليا في أي ترتيبات سياسية مستقبلية، وكذا محاولات جبهات المعارضة السودانية التقليل من دور مصر في إيجاد حل للأزمة السودانية، والنظر إليها على أنها تتدخل في الشأن الداخلي للسودان، واستغلال علاقتها بالبرهان ورئاستها لمجلس السلم والأمن الأفريقي لتمرير قرارات تخدم مصالحها فقط ولا تُعير اهتمامًا للشعب السوداني.