سارة طارق النادي
تشهد منطقة شمال سوريا توترات جيوسياسية معقدة، حيث تتداخل فيها مصالح قوى داخلية، وإقليمية، ودولية مختلفة، وفي ظل هذا المشهد؛ يُعد الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا عاملا جيوسياسيا حاسما، ستكون له تداعيات كثيرة على الصراع بين تركيا والتنظيمات الكردية المسلحة “قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ووحدات حماية الشعب” بوجه خاص، وعلى المنطقة بوجه عام. فما هي أبرز هذه التداعيات المحتملة على استقرار المنطقة، وعلى الأطراف الفاعلين المحليين والدوليين فيها؟
الصراع التركي الكردي في شمال سوريا:
يشهد الشمال السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد تصعيدا عسكريا ملحوظا بين تركيا والفصائل السورية الموالية لها وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إذ تعتزم تركيا القضاء على الفصائل الكردية المسلحة على حدودها الجنوبية سواء تنظيم قسد أو وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها تهديدا للأمن القومي التركي، ويتمثل هذا التصعيد في قصف واشتباكات متبادلة بينهما في عدة مناطق أبرزها عين العرب “كوباني” ومنبج وحلب، والذى أدي إلى وقوع خسائر بشرية بين الطرفين، وفي ظل هذه التوترات، تهدد تركيا بشن عملية عسكرية واسعة ضد قسد، بينما تؤكد قسد المدعومة أمريكيا على استعدادها للتصدي لأي هجوم والدفاع عن مناطق سيطرتها، لاسيما بعد خسارتها مناطق كانت تابعة لها مثل “تل رفعت ومنبج”.
الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا:
لا يزال قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا معلقا وغير واضح، حيث تشهد أروقة صنع القرار في أمريكا انقساما حادا حول سحب هذه القوات، فبينما يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن سوريا ليست ساحة حيوية لمصالح الأمن القومي الأمريكي، ويدعو إلى سحب القوات تماشيا مع سياسته “أمريكا أولا”، تعارض وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” واللوبي الإسرائيلي هذا التوجه، ويؤيدون بقاء القوات الأمريكية في سوريا لمحاربة داعش وضمان أمن إسرائيل، وعلى الرغم من تداول الأنباء بأن البنتاجون يخطط للانسحاب من سوريا، إلا أنه ليس هناك تصريحات رسمية حتى الآن بقرار الانسحاب.
ومع ذلك، فإن تصريحات الرئيس/ ترامب الأخيرة التي تعكس فتورا في الاهتمام الأمريكي بالتواجد في سوريا، والتي تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تقلل مشاركتها في سوريا أو تتخلى عن أي تدخل مباشر فيها، وأنها ستتخذ قرارا نهائيا بشأن مستقبل وجودها العسكري في سوريا، تحمل عددا من الدلالات أبرزها:
Ü سحب القوات الأمريكية من سوريا وفق آلية منظمة وبالتنسيق مع الأطراف الفاعلة الدولية والإقليمية في سوريا.
Ü تغيير طبيعة الوجود الأمريكي في سوريا، بحيث يقتصر على تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي بما يضمن أمن إسرائيل ويخدم مصالحها دون المشاركة المباشرة في العمليات العسكرية.
استراتيجية تركيا لإعادة تشكيل المشهد السياسي الكردي:
1. المبادرات السياسية: وتتمثل في مبادرة زعيم حزب الحركة القومية “دولت بهتشلي” لإنهاء الصراع مع حزب العمال الكردستاني، حيث دعا زعيم الحزب عبد الله أوجلان لحل الحزب وإلقاء السلاح مقابل الاستفادة من العفو، والتوصل إلى حل سياسي للقضية الكردية. وفي هذا السياق كثف حزب المساواة الشعبية والديمقراطية “ديم” الكردي في تركيا تحركاته في إطار هذه المبادرة، حيث اجتمع وفد منه مع الزعيم الكردي أوجلان، كما عقد اجتماعات موسعة مع أطراف سياسية فاعلة، شملت رئيس البرلمان التركي ورئيس حزب الحركة القومية، وبالإضافة إلى ذلك قام وفد من حزب “ديم” بزيارة إقليم كردستان العراق اليوم في محاولة لإعادة ترتيب التوازنات الكردية في المنطقة، وقد أعلن الرئيس المشترك لحزب “ديم” تونجر باقرهان الأسبوع الماضي، عن رسالة تاريخية مرتقبة لأوجلان قد تؤثر على مستقبل حزب العمال الكردستاني.
2. التحالفات الإقليمية: كثفت تركيا من تحركاتها الدبلوماسية الأيام الماضية لتشكيل تحالف مع الإدارة السورية، والعراق، وإقليم كردستان، وإيران، بهدف الضغط على حزب العمال الكردستاني بوجه عام وقسد بوجه خاص لنزع السلاح من الأكراد، ومنع تشكيل إقليم كردي مستقل، وإعادة الإدارة السورية الجديدة السيطرة على كامل الأراضي السورية، وفي هذا الصدد، زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان العراق، والتقى رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن مع مسؤولين في دمشق، ثم زار طهران، حيث اجتمع مع وزير الاستخبارات في إيران، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لبحث التعاون في مكافحة الإرهاب، وخاصة ضد حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش، بالإضافة إلى الوضع في سوريا.
وتهدف استراتيجية تركيا سواء من خلال المسار الداخلي المتمثل في المبادرة والحوار، أو المسار الإقليمي الذي يقوم على تشكيل تحالفات للضغط على حزب العمال الكردستاني؛ إلى تنسيق المواقف مع هذه الدول، والتوصل إلى حل سياسي للملف الكردي، وذلك قبل زيارة الوفد التركي المرتقبة إلى واشنطن لإجراء محادثات حول قسد وحزب العمال الكردستاني.
التداعيات المحتملة للانسحاب الأمريكي على سوريا والقوى الإقليمية:
§ تركيا: ترى تركيا في الانسحاب الأمريكي فرصة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في شمال سوريا، وأهمها:
– تعزيز نفوذها في سوريا: حيث ستسعى تركيا لملء الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأمريكي، كما ستسعى لتعميق علاقاتها مع القيادة السورية الجديدة لاستعادة النفوذ في المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية حاليا، مما يُقوض أي محاولة لتأسيس كيان كردي مستقل على حدودها الجنوبية مع سوريا.
– حرية التدخل عسكريا: سيمنح الانسحاب الأمريكي تركيا حرية أكبر في تنفيذ عمليات عسكرية ضد التنظيمات الكردية المسلحة على حدودها، مما يحقق هدف تركيا في تأمين حدودها مع سوريا، ومنع أي تهديدات قد تنطلق من الأراضي السورية، حتى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة بشأن الملف الكردي.
§ قوات سوريا الديمقراطية (قسد): تسعى قسد للحفاظ على قواتها ككتلة عسكرية ضمن الجيش السوري، والحفاظ على سيطرتها على المناطق الحدودية في شمال شرق سوريا، وهي مساعي تتعارض مع رؤية النظام السوري وحلفائه، ومصالح تركيا الأمنية، لذلك يثير قرار انسحاب القوات الأمريكية من سوريا مخاوف جدية لدى قسد لعدة اعتبارات، أهمها:
– يُعطي انسحاب القوات الأمريكية الفرصة لتركيا لشن هجوم عسكري واسع النطاق ضد قسد، إذا لم تقدم قسد على حل نفسها، واندماج قواتها في الجيش السوري.
– إمكانية سيطرة النظام السوري على مناطق نفوذ قسد، مما يؤدي إلى تقويض الحكم الذاتي الذي تتمتع به قسد في شمال سوريا.
– فقدان الدعم الذي يوفره قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من تقديم غطاءً جويا ودعما لوجيستيا وتدريبا لقوات قسد.
وفي ظل هذه المخاوف قد تسعى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى إقامة تحالفات جديدة مع قوى أخرى لحماية مصالحها، وبالفعل صرحت “إلهام أحمد”، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية بـالإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد في شمال وشرق سوريا، في مقابلة مع “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، أن الحل في البلاد والمنطقة يتطلب مشاركة إسرائيل.
§ إسرائيل: تستفيد إسرائيل من وجود كيان كردي قوي في المنطقة، حيث يشكل عاملا مزعزعا للاستقرار في دول الجوار، مما يضمن أمن إسرائيل على المدى الطويل، لذلك تدعم إسرائيل وجود حكم ذاتي للأكراد في سوريا وربما حكم فيدرالي، وهو ما يتعارض تماما مع أهداف الإدارة السورية والمصالح الأمنية التركية.
وقد تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية تقريرا حول سحب القوات الأمريكية من سوريا، وزعمت أن هذا الانسحاب مشروط بتطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل. ورغم نفي الرئيس دونالد ترامب هذه المزاعم، يُعتقد أنها تأتي في سياق سعي إسرائيل إلى تقليل التهديدات التي قد تواجهها من سوريا من خلال تطبيع العلاقات مع تركيا وإنشاء آلية أمنية مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، وذلك إدراكا منها بنفوذ تركيا القوي في سوريا..
ختامًا:
يحدد قرار انسحاب الولايات المتحدة من سوريا مسار الصراع بين تركيا والأكراد، ومن المتوقع أن يفتح الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا الباب لعدة سيناريوهات محتملة، أبرزها:
§ الأول: قد يشهد شمال سوريا تصعيدا عسكريا، حيث ستسعى تركيا، والجيش السوري الحر الموالي لها، إلى القضاء على الفصائل الكردية المسلحة، مثل “قسد” و”وحدات حماية الشعب الكردية”، وبالتزامن مع ذلك، يُتوقع تزايد نفوذ داعش والجماعات المتطرفة الأخرى في ظل الفراغ الأمني الذي سيخلقه الانسحاب الأمريكي من سوريا.
§ الثاني: أن يكون الانسحاب الأمريكي مشروطاا بالتوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تحفظ مصالح جميع الأطراف، على أن تتضمن هذه التسوية حل التنظيمات الكردية المسلحة ودمجها في الجيش السوري، والحفاظ على وحدة سوريا، كما تتضمن التسوية الحقوق الكردية في الدستور السوري، وتوزيعا عادلاً للثروات السورية، مع سيطرة الإدارة السورية الجديدة على هذه الثروات وكافة الأراضي السورية.
وفي ظل السيناريوهات السابقة، من المتوقع أن تقدم تركيا للإدارة الأمريكية ضمانات أمنية تشمل التزامها بمكافحة الإرهاب بما في ذلك (داعش) والجماعات المتطرفة الأخرى، مع التزامها بالتوصل لحل سياسي من خلال الحوار والتفاوض بين جميع الأطراف المعنية وهو ما تقوم به في استراتيجيتها لتسوية الملف الكردي سواء من خلال المبادرات السياسية أو التحالفات الإقليمية، لكن في حال فشل التسوية السياسية قد يكون سيناريو التصعيد العسكري هو الأرجح وهو ما قد يهدد استقرار سوريا والمنطقة.