ملامح وعوامل الأزمة
شهدت الأسواق المالية العالمية في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية اضطرابات غير مسبوقة وانهيار مُفاجئ في حجم التعاملات، وسجلت أسوأ أداء لها منذ الأزمة العالمية عام 2008، وخسائر بنسب كبيرة، وتأتي تلك الانهيارات تزامنًا مع توترات جيوسياسية متصاعدة في شتى أنحاء العالم، والتي تعكس هشاشة النظام المالي العالمي، وتُثير مخاوف جدية حول مستقبل الاقتصاد العالمي والاستقرار السياسي الدولي[1]، وقد أشارت مجلة فورين بوليسي أن تداعيات هذا الانهيار في الأسواق المالية قد تتجاوز خسائر في القيمة السوقية للشركات، بل يؤدي إلى محو مليارات وتريليونات من الدولارات من الثروة الورقية حتى وإن كان افتراضيًا، ويُمكن أن يُؤثر على قطاعات من الاقتصاد العالمي والمحلي مثل قطاع التصنيع والبناء وفرص العمل، وكذا مؤشرات ثقة المستهلكين، التي تُعتبر العناصر الأساسية لازدهار اقتصاد أي دولة[2].
أرشيفية
وبحسب المحللين والخبراء الذين أرجعوا الأزمة إلى عوامل عدة منها الاقتصادية، من أهمها تنامي الخوف المتزايد من دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة ركود مُحتمل وارتفاع معدلات البطالة، فضلًا عن تثبيت مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خفض أسعار الفائدة والتي لا تزال عند معدلات مرتفعة (5.25-5.5%)، ويكمن هنا السبب الرئيس لتراجع قيمة العملات المحلية في دول أفريقية عديدة[3].
تداعيات سلبية
ورغم انهيار أسواق المال العالمية، وتأكيد غالبية المؤسسات المالية الرسمية الدولية والإقليمية والوطنية، أنه لم تطرأ تغييرات قوية على مؤشرات الأسواق المالية في أفريقيا، حيث تأثرت البورصة المصرية وانخفاض مؤشرها وتراجع قيمة الجنية أمام الدولار إلى أدنى مستوى له منذ مارس الماضي، وقد طالت تداعيات الأزمة بورصة نيجيريا وانخفض مؤشرها انخفاضًا طفيفًا، بينما تأثرت بورصة جوهانسبرج – الأولى أفريقيًا – تأثرُا مزدوجًا طال أسهم أغلب شركاتها الكبرى، وكذا انخفاض قيمة عملتها الوطنية[4]، في حين تواجه بعض أسواق المال الأفريقية ثمّة مُعضلة تتمثل في تحقيق مؤشرات المال الوطنية ارتفاعًا جيدًا وتحقيق مكاسب جيدة، لكن العملات الوطنية التي تُعتبر ضعيفة نوعًا ما مثل مصر ونيجيريا وزيمبابوي تؤدي إلى تآكل عوائد المستثمرين الدوليين الذين يقيسون الأداء بالدولار الأمريكي أو اليورو، وربما تقلب أسعار صرف العملات الأفريقية مقابل الدولار الأمريكي يُزيد من الصعوبة التي يواجهها المستثمرون الأجانب في الحفاظ على عوائد مستقرة، إلى جانب تحديات السيولة في السوق والقيود المفروضة على إعادة الأرباح إلى الوطن، مما يدفع المستثمرون الأجانب إلى إعادة تقييم المخاطر للأسهم الأفريقية، ويؤدي إلى انخفاض تدفق رأس المال الأجنبي إلى هذه الأسواق على المدى القريب، وتفقد القارة جاذبيتها كوجهة للسوق العالمي للاستثمار[5].
أرشيفية
سمات الاقتصاد الأفريقي
مما لا شك فيه أن أفريقيا ليست بمنأى عما يحدث عالميًا، وقد يكون انعكاس وطأة الأزمات المالية العالمية على أفريقيا شديدة رغم أنها ليست مرتبطة بشكل كبير بالاقتصاد العالمي، لكن تُعتبر تداعيات تلك الأزمات العالمية محرك رئيس لتأثر الأسواق الأفريقية، وذلك يرجع لعدة محددات مثل انخفاض متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، وسوء توزيع الدخل القومي، وهيمنة القطاع الز ا رعي على اقتصادات الدول الأفريقية، وانخفاض معدلات الادخار ومستويات الإنتاجية، والتبعية النقدية والمصرفية، والتخصص في إنتاج سلعة واحدة أو سلعتين، فعدم تنويع صادرات الدول الأفريقية بجعل اقتصاداتها خاضعة لتقلبات الاقتصاد العالمي، ولاسيما تقلبات الأسعار العالمية للمواد الأولية، ولعل أبرز تلك السمات هي التبعية الاقتصادية للخارج، بمعنى أن الدول المتقدمة تتحكم في اقتصادات الدول الأفريقية. وتتمثل مظاهرها فيما يلي[6]:
- سيطرة الشركات الأجنبية على العمليات المتعلقة بالتجارة الخارجية.
- انسياب رؤوس الأموال الأجنبية تجاه الدول الأفريقية لتحقيق مصالح للمستثمر الأجنبي للدول الصناعية.
- ارتفاع نسبة الصادرات إلى الدخل القومي.
- سوء التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية.
- اعتماد الدول الأفريقية على الخارج في الحصول على السلع الإنتاجية.
الأسواق المالية الأفريقية
أرشيفية
تضم جمعية البورصات الأفريقية (ASEA) حوالي 25 بورصة عضوًا في الجمعية، تغطي 37 دولة أفريقية وأكثر من 2400 شركة مدرجة[7]، ووفقًا لتقرير مجموعة أكسفورد للأعمال الصادر نهاية عام 2023، بلغت القيمة السوقية الإجمالية للبورصات الأفريقية حوالي 1.6 تريليون دولار، وهو ما يشكل حوالي 2٪ من القيمة السوقية لسوق الأسهم العالمية[8]، تُمثلها أكبر 10 بورصات تحتل مقدمتها بورصة جوهانسبرج بجنوب أفريقيا ومؤشرها (JSE)، يليها بورصة الدار البيضاء بالمغرب ومؤشرها (BVC)، ثم البورصة المصرية ومؤشرها (EGX)، يليها بورصات (نيجيريا – بتسوانا – ناميبيا – ساحل العاج – كينيا – موريشيوس – غانا).
وعلى مسار موازٍ، اشتركت ثمان دول في إقليم غرب أفريقيا في تدشين البورصة الإقليمية لغرب أفريقيا (BRVM)[9]، وتلك الدول أعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA) وهي (بوركينا فاسو – غينيا بيساو – ساحل العاج – مالي – النيجر – السنغال – توجو – بنين) ومقرها في أبيدجان، وتُعد نجاحًا اقتصاديًا وسياسيًا ومؤسسيًا وتقنيًا في أفريقيا، كونها الوحيدة في العالم التي تشترك بها عدة دول مجتمعة، حيث تستخدم الفرنك الأفريقي المرتبط باليورو بسعر ثابت، مما ساهم في توفير مستوى من الاستقرار والقدرة على التنبؤ، وهو ما تفتقر إليه بشدة العديد من العملات الأفريقية الأخرى، مما يجعلها خيارًا جذابًا للمستثمرين الذين يتطلعون إلى الاستثمار في الأسواق المالية الأفريقية دون التعرض لمخاطر كبيرة للعملة.
تحديات وفرص
نظرًا لأن المستثمرين الأجانب يبحثون دومًا عن العوائد الكبرى والمكاسب المرتفعة، خاصًة وإن كانوا يتعاملون في أسواق المال الأفريقية وتقييم فرص الاستثمار في أفريقيا، فمن الضروري أن تتمتع تلك الأسواق بالمميزات التي تجعلها محط أنظار المستثمرين وتتملك دولها العوامل اللازمة لجذبهم وذلك من استقرار سياسي وبرامج إصلاحات اقتصادية بجانب أداء أسواق المال الرئيسة بها واستقرار أسعار صرف عملتها نوعًا ما، وتتمثل بعض التحديات في الآتي:
- عدم رغبة بعض الدول الأفريقية الانضمام إلى اتحادات نقدية.
- عدم استقرار أسعار صرف العملات الأفريقية يهدد بتقويض مكاسب المستثمرين الدوليين.
- ارتفاع مستويات التضخم في الدول الأفريقية.
- عدم القدرة على سداد الديون.
- انهيار اقتصاد أي دولة أفريقية يهدد بانفجارات داخلية ونزاعات قبلية وهجرات خارجية.
- زيادة أعباء الضغوط الاقتصادية على المواطن الأفريقي.
- ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض فرص العمل.
- احتمالية تكوين تحالف نقدي بين دول بوركينافاسو ومالي والنيجر والانفصال عن الفرنك الأفريقي.
ورغم أن معظم دول غرب أفريقيا الآن لا يوجد بها استقرار سياسي بعض الشيء، نتيجة للانقلابات الأخيرة وما تبعها من أحداث، إلا أن النجاح النسبي الذي حققته (BRVM) والفرنك الأفريقي يُقدم نموذجًا مثيرًا للاهتمام للدول الأفريقية الأخرى لدراسته، واستكشاف سبل تعزيز التعاون النقدي والحدّ من تقلبات أسعار الصرف، مما يُساعد في الحفاظ على مكاسب سوق الأوراق المالية لكل من المستثمرين المحليين والدوليين، وفي ضوء ذلك، يُمكن توضيح بعض الفرص التي قد تكون محل نظر لدراستها للتغلب على ما قد ينتج مستقبلًا من أزمات عالمية في ذات الشأن وهي:
- الإسراع من انتهاء مراحل مشروع ربط أسواق المال الأفريقية بالتعاون بين اتحاد البورصات الأفريقية وبنك التنمية الأفريقي.
- تفعيل صندوق ضمان مخاطر الاستثمار في أفريقيا كأحد مبادرات الدولة المصرية للتحوط من مخاطر الأزمات الاقتصادية وتداعياتها على أفريقيا.
- إمكانية تعاون أفريقي – أفريقي في مجال الطاقة والتبادل التجاري في النفط والغاز بين الدول الأفريقية استثمارًا لانخفاض أسعاره في الفترة الحالية، وتقليل مخاطر انخفاض أسعار العملات الأفريقية أثناء الأزمات العالمية.
- دراسة تداول أسهم شركات الحدّ من انبعاثات الكربون في أفريقيا لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة في الدول الأفريقية، من خلال جذب تمويل المناخ إلى أفريقيا وخفض انبعاثات الكربون، وذلك في إطار مبادرة أسواق الكريون الأفريقية.
خلاصة
جاءت انهيار البورصات العالمية الأسبوع الماضي بتداعيات كارثية وواسعة النطاق، امتد تأثيرها إلى اقتصادات مختلفة حول العالم، ومن بينها القارة الأفريقية، التي لم تشهد تأثيرات مباشرة كبرى، لكن تفاعلت الأسواق الأفريقية مع الموجة البيعية الجامحة والخسائر الكبيرة للأسهم العالمية بشكل أو بأخر للحدّ من تداعيات تلك الأزمة، في ظل تزايد مخاوف المستثمرين بشأن مرحلة الركود مُحتملة في الاقتصاد الأمريكي بعد قرار البنك الفيدرالي بتثبيت أسعار الفائدة على خلفية مؤشرات سلبية للاقتصاد وارتفاع معدلات البطالة وتباطؤ معدلات نمو القطاع الصناعي، وذلك نتيجة للتوترات الجيوسياسية في بعض مناطق العالم لاسيما في منطقة الشرق الأوسط.
[1] تراجع البورصات العالمية تداعيات اقتصادية وسياسية لانهيار أسواق المال، مقال منشور على موقع القاهرة الإخبارية، أغسطس 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط: https://2u.pw/rNPAWbRX
[2] Global Market Meltdown Adds to Geopolitical Chaos, Article published on Foreign Policy website, Aug. 2024, viewed through this link: https://2u.pw/8UJoNQyN
[3] هبوط عنيف للبورصات العالمية.. ما التداعيات على أسواق أفريقيا؟، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، مقال منشور، أغسطس 2024، يمكن مطالعته من خلال هذا الرابط: https://2u.pw/mDic5Rsm
[4] هبوط عنيف للبورصات العالمية.. ما التداعيات على أسواق أفريقيا؟، مصدر سابق.
[5] Africa’s Stock Markets Are Booming. But Currency Woes Dampen Allure, Article published on African Markets website, Aug. 2024, viewed through this link: https://2u.pw/okdBSQ7u
[6] مدخل للاقتصاد الأفريقي، أ.د. فرج عبد الفتاح – د. سالي فريد، معهد الدراسات الأفريقية، 2014/2015.
[7] African-exchanges ASEA, published on African-exchanges website, Aug. 2024, viewed through this link: https://2u.pw/GlbafmqY
[8] Top 10 largest stock markets in Africa based on market capitalization, Article published on African Markets website, Dec. 2023, viewed through this link: https://2u.pw/v8ZUNZCB
[9] The Regional Stock Exchange (BRVM), About the Regional Stock Exchange published on BRVM website, Aug. 2024, viewed through this link: https://2u.pw/XbJBP7i7