د.محمد أحمد صالح
مدير وحدة الدراسات الإسرائيلية
ظهرت قضية “محور صلاح الدين” (فيلادليفا) في الفترة الأخيرة، وفرضت نفسها حتى على طبيعة صفقة تبادل الأسرى، إلى الحد الذي بات فيه الجانب الإسرائيلي يتحدث عن تفاصيل حل هذه القضية، وبات واضحا أمام المحللين في إسرائيل والشرق الأوسط والعالم أن هذه القضية باتت هي السبب الرئيس في عدم التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى في الوقت الراهن.
وقد تأكد هذا التصور بعد أن تمكن الجيش الإسرائيلي من استعادة جثث ستة أسرى إسرائيليين من أحد أنفاق قطاع غزة (31/8/2024م)، بعدما بات واضحا للغالبية العظمى من الإسرائيليين أن مقتل هؤلاء الأسرى يُعدّ نتيجة مباشرة لقيام رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بإفشال صفقات تبادل الأسرى المقترحة، وإصراره على أن يحافظ الجيش الإسرائيلي على وجوده في محور صلاح الدين، فضلاً عن تعزّز الرؤية التي تقول أن نتنياهو يتمسّك بهذا الموقف فقط من أجل خدمة مصلحته الشخصية والسياسية والحزبية.
وقد ترتب على مقتل هؤلاء الأسرى نزول الإسرائيليين من جديد إلى الشوارع للمطالبة بالتوصّل إلى صفقة تبادل أسرى، واحتجاجاً على مقتل المزيد من الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة. والجديد في هذه المظاهرات انضمام اتحاد نقابات العمال (هستدروت) إلى حملة الاحتجاج من خلال إعلان الإضراب العام.
محور صلاح الدين وأهميته
يمثل محور صلاح الدين (فيلادلفيا وفق التسمية الإسرائيلية مع أول ترسيم للحدود عام 1982م-1983م) خط الحدود الذي يربط قطاع غزة بالدولة المصرية، ويبلغ طوله 14 كيلومترا، من البحر إلى معبر كرم أبو سالم. لم يكن هذا الخط ومايمثله من حدود محل خلاف بعد حرب فلسطين عام 1948م؛ لأن قطاع غزة كان تحت السيادة المصرية في حينها، ولم يكن أيضا محل خلاف بعد حرب عام 1967م. لكن عودة سيناء إلى مصر بعد انسحاب إسرائيل منها، بموجب اتفاقية السلام التي وقعها الجانبان، تم التأكيد على هذا الخط ودوره في ترسيم الحدود. ظل محور صلاح الدين تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية حتى عام 2005م، عزز هذه السيطرة مجمع استيطاني ضم مستوطنات قطيف القريبة من حدود مصر.
وتكمن أهمية هذا المحور في أنه يقسم مدينة رفح، فنجد رفح الفلسطينية بنسبة 80%، ورفح المصرية بنسبة 20%. ولكن بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجانب المصري عام 1982م، قدم وزير الدفاع أنذاك أريئيل شارون (1828م-2014م) اقتراحا يتم بموجبه نقل سكان رفح المصرية إلى داخل قطاع غزة، وأنشأت إسرائيل محورا حدوديا بعرض 40 مترًا، وشيدت أيضا معبر رفح.
ارتبط محور صلاح الدين في الوعي الجمعي الإسرائيلي بحفر الأنفاق، بهدف تهريب البضائع والأشخاص، ولكن مع مرور الوقت، أصبحت هذه الأنفاق، مع استمرار الحصار الإسرائيلي وغلق المنافذ في إطار العقاب الجماعي، تشكل جزءًا من اقتصاد سري ضخم يشمل تهريب السلع والوقود والمعدات.
كان أول نفق اكتشفته إسرائيل تحت محور صلاح الدين عام 1983م، أي بعيد بناء محور صلاح الدين بفترة قصيرة، وكان هدفه ربط أفراد الأسر على جانبي الحدود. ولكن خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1990م، بدأت الأنفاق تتحول إلى صناعة واسعة هدفها تهريب البضائع والأسلحة. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية توسعت شبكة الأنفاق بشكل كبير، وبتقنيات هندسية أكثر تطورًا.
بحلول العام 2007م، عندما سيطرت حماس على المعبر بعد الانقسام الفلسطيني، شكلت الأنفاق المجال الحيوي والمصدر الرئيس لحماس، اقتصاديا وعسكريا، بما في ذلك تهريب الأسلحة الثقيلة والمتفجرات، فأصبحت تجارة مربحة، مما أثار منافسة وصراعات بين العشائر للسيطرة عليها.
إسرائيل ومحور صلاح الدين
نظرت إسرائيل إلى محور صلاح الدين على أنه يمثل خطورة دائمة، بعدما أصبح ساحة معركة يطلق منها المقاومون الفلسطينيون مئات الصواريخ والقذائف المضادة للدبابات، ويفجروا منه العبوات الناسفة، وينفذوا هجماتهم المسلحة. ونتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية وكثافتها وماتحدثته من خسائر بشرية صدر قرار بالإنسحاب الأحادي في فترة شارون، ضمن “خطة الانفصال”.
من هنا، وبعد 23 يومًا من بدء العملية البرية الإسرائيلية في رفح، عمل الجيش الإسرائيلي على احتلال محور صلاح الدين، زاعما أنه اكتشف عشرين نفقًا، وأن بعضها يمتد إلى الأراضي المصرية، بالإضافة إلى 82 فتحة أنفاق بالقرب من المحور. ويصر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على عدم انسحاب إسرائيل من محور صلاح الدين بأي شكل من الأشكال.
نتنياهو ومحور صلاح الدين
يدرك محللون وساسة في إسرائيل وخارجها أن مايطرحه نتنياهو حول التمسك بالبقاء في محور صلاح الدين يحقق له هدفين، الأول هو تعطيل اتمام صفقة تبادل الأسرى، ومايترتب عليها من توقف الحرب، وهو أمر يشكل خطوره مباشرة عليه هو شخصيا، وعلى ائتلافه الحاكم من ناحية، ومن ناحية أخرى يزج باسم مصر ضمن هذه الصفقة عبر مزاعم وأكاذيب عديدة، تشعب القضية، ويدخِل فيها أطرافا كثيرة، وتدخِلها في تفاصيل كثيرة يصعب التوافق عليها من قبل الأطراف المعنية.
فبدأ الطرف الإسرائيلي يدخل في ترتيب وتفاصيل الوجود العسكري الإسرائيلي في محور صلاح الدين، فيقترح نشر قوات محدودة في المحور، وإقامة ثمانية أبراج مراقبة على المحور، ويدخل الوسيط الأمركي على الخط ليقدم حلال وسط فيجعلها برجين فقط، إلا أن الموقف المصري واضح وصريح وحازم، وهو رفض الوجود العسكري الإسرائيلي الدائم على حدوده، بغض النظر عن عدد قواته. وفي هذا الإطار تطلب مصر من الوسيط الأمريكي ضمانات بعدم عودة الجيش الإسرائيلي إلى محور صلاح الدين إذا غادره ضمن المرحلة الأولى من هذا الاتفاق.
وفي الداخل الإسرائيلي يتفق المحللون على أن نتنياهو يتذرع بالبقاء في محور فيلادلفيا ليتهرب من اتمام صفقة تبادل الأسرى، وقد أوردت قنوات تليفزيونية وإذاعية ومواقع إخبارية إسرائيلية وغربية تحليلات وتقارير تؤكد على هذا التوجه. فنتنياهو هو الذي وضع مسودة اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، وحدد بنوده، وكان يتوقع أن ترفضه حماس، ولكن- وبضغط من الوسيطين المصري القطري- قبلته حماس فوجد نفسه في موقف يتطلب موافقته هو أيضا بوصفه صاحب مسودة الاتفاق، ولكنه تهرب هذه المرة أيضا، كما في المرات السابقة، فوضع مطالب جديدة، منها مراقبة انتقال اللفلسطينيين في غزة من الجنوب إلى الشمال، واختيار من ينتقل ومن لا ينتقل، وبقاء الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين بشكل دائم، وإغلاق معبر رفح بعد هدمه ونقل مكانه، والإشراف على المعبر الجديد.
أوردت القناة الثالثة عشر على لسان أحد المحللين أن نتنياهو، بإضافة هذه الشروط الجديدة، عاد إلى الوراء كثيرا؛ لأنه ببساطة لايريد لهذه الصفقة أن تتم. من هنا أورد الكاتب باراك رافيد في موقع أكسيوس الأمريكي أن مجلس الوزراء الأمني المصغر صادق على بقاء الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين ضمن مايسميه الصفقة المحتملة. ونقل رافيد عن مسئول إسرائيلي أن المجلس وافق بأغلبية 8 وزراء ومعارضة وزير الدفاع جالانت وامتناع وزير الأمن الداخلي بن جفير.
وحاول السياسي إيلي جولدشمت (حزب العمل) تحويل الحرب في غزة على أنها حرب عقول بين بنيامين نتنياهو من جانب ويحى السنوار من جانب آخر، تفوق فيها السنوار على نتنياهو، فبات يتحجج بالبقاء عسكريا في محور صلاح الدين ليغطى على هزيمته الشخصية وفشله العسكري.
وجاء على لسان عميد احتياط إسحاق بريك، وهو ينتقد نتنياهو وقيادته، فيتحدث عن الإفراج الجزئي للأسرى يعني له أن الحرب لن تنتهي، فالمجتمع أمام قيادة سامة، فهو شخصية لها حضور قوي، شخصية تقود الجماعة، ولكنها قيادة في الاتجاه الخطأ، قيادة إلى نهاية الصهيونية، وهذا هو مايفعله نتنياهو. فحكومته لاتعرف ولاتريد إنهاء هذه الحرب. فهذه الحرب تخسر إسرائيل هويتها كشعب ويهود وبشر، وإذا لم يننه الاحتلال فلن يحظى بالأمن والأمان، ولن يحقق ديمقراطيته المزعومة، وهذا يمثل نهاية مايسميه “الحلم الصهيوني”؛ الذي يعني “دولة إسرائيل بهوية محددة، ديمقراطية يهودية”، والفلسطينيون يطالبون بالحرية، وسيقاتلون من أجل إنهاء الاحتلال، من هنا يجب أن تقسم هذه الأرض بيننا وبينهم. فنتنياهو يكذب عليهم؛ فهو قيادة سامة، وهو يعلم أن الفلسطينيين سيواصلون نضالهم ولن يقبلوا أية قيادة إسرائيلية تمنحهم حلمهم الوطني بإنهاء الاحتلال.
وتشير القناة الثانية عشرة الإسرائيلية إلى تمسك نتنياهو بالبقاء في محور صلاح الدين، فمع مناقشة وفد المفاوضين الإسرائيليين، وطرح الاختيار بين اتمام الاتفاق والبقاء في محور صلاح الدين يختار البقاء في محور صلاح الدين على حساب الأسرى الإسرائيليين الأحياء، دون مناقشة آلية التبادل، وعدد الأسرى الفلسطينيين، الأمر الذي يعكس عدم توفر إرادة سياسية عنده نتنياهو للذهاب إلى صفقة.
وحينا يقرر الخبراء الأمنيون أن هذا التواجد لا أهمية له أمنيا يرد نتنياهو بأن هذا الأمر سياسي واستراتيجي يتجاوز الأمني، ويجب على إسرائيل أن تسيطر على كل المعابر وكل قطاع غزة من جميع الاتجاهات، باعتبار ذلك أمرا استراتيجيا. وأقصى مايمكن أن يناقشه نتنياهو في هذا الأمر هو مناقشة انتشار القوات وعددها، وليس تواجدها من عدمه. ويتفق المحللون على أنه إذا فشلت الصفقة فإن إسرائيل قد تكون مقبلة على حرب في الشمال وحرب في الجنوب وربما في أماكن أخرى، أو حرب قليمية. من هنا يصف المفاوضون الإسرائيليون موضوع محور صلاح الدين وإصرر نتنياهو عليه أشبه بوضع “العصا في علبة التروس” لتعطيل الصفقة.
وبسبب هذا الإصرار غير المبرر للتواجد العسكري في محور صلاح الدين يجد نتنياهو نفسه في خلاف وصراع مع قياداته العسكرية والأمنية، فيقول: “أقف بمفردي أمام الأجهزة الأمنية بأكملها وقادة المفاوضات – إنهم يظهرون ضعفا ويبحثون فقط عن طريقة للاستسلام، بينما أقف إلى جانب مصالح دولة إسرائيل، ولست على استعداد للاستسلام. فهذه مطالب من شأنها الإضرار بالأمن”
ويؤكد ضابط احتياط في الجيش الإسرائيلي، وأخو أحد الأسري، بعدما سمع عن مقتل الأسرى الإسرائيليين على أن إسرائيل أفلست. فالضغط العسكري المزعوم حذر منه خبراء عسكريون. فمن المعروف أن الضغط العسكري سيقود إلى قتل الأسرى داخل الأنفاق. وبسبب محور فيلادلفيا وتمسك نتنياهو به سيتحول هذا المحور إلى قبر للأسرى الأحياء، فكل من هناك سيموت، وحينما اتخذ مجلس الوزراء الأمني المصغر، الذي يسميه مجلس الموت، قرارا بالبقاء العسكري في المحور فقد اتخذ قرارا بإعدام جميع الأسرى. وبمجرد الإصرار على البقاء في المحور يصبح أهم من حياة الأسرى. فالمجتمع الآن يعيش في ظل حكومة تفكك البلاد خطوة بخطوة، فيتهم الحكومة الإسرائيلية اتهاما مباشرا لأنها أوصلت حماس إلى وضع يجب فيه إطلاق النار عليهم، وعدم إطلاق سراحهم في صفقة في الوقت المناسب. يجب على حكومة نتنياهو- كما جاء في كلامه- أن يتوصلوا إلى اتفاق، دون لف ودوران، مثل البقاء في فيلادلفيا، ودون حصار، ودون التحقق ممن يمر من الشمال إلى الجنوب، وغير ذلك العراقيل.
وفي ظل حالة الجمود التي شهدتها مفاوضات إطلاق سراح الأسرى، وفرض شروط جديدة رفضتها فصائل المقاومة، وزيادة حدة حالة الإنقسام الاجتماعي في إسرائيل رأى نتنياهو وحكومته اليمينية أن الحل الوحيد هو الهروب إلى الأمام، الهرب إلى الشمال، فبدأ في تنفيذ عمليات استخبارية دقيقة ضد حزب الله وقياداته، وصلت لقمتها باغتيال حسن نصرالله، ولكن عاد الفشل العسكري يلازم جيشه من خلال فشله في الدخول بريا على الأرض إلى الحدود اللبنانية.
أكاذيب ومزاعم إسرائيلية ضد مصر
ولكي يبرر الإسرائيليون تواجدهم العسكري في محور صلاح الدين والمعبر الحدودي بين مصر وغزة يرددون، كما رددوا في السابق، مزاعم وأكاديب ضد مصر، للحديث عن دورها في تزويد غزة بالأسلحة والعتاد، فيخرج العميد أمير أفيفي زاعما وجود آلاف المسيرات والصواريخ تنتظر في سيناء لتهريبها إلى غزة، وأن محور صلاح الدين بمثابة “أنبوب أكسجين” لحركة حماس لتهريب السلاح، ويدعي أنه بمجرد انسحاب إسرائيل من المحور ستقوم حماس بتهريب الأسري الأحياء إلى إيران عبر سيناء.
وهكذا تتبني مصرا موقفاً صارماً وحازما يؤكد على عدم وجود قوات إسرائيلية على حدودها في محور صلاح الدين، وإذا كان لابد من وجود قوات لتكن قوات فلسطينية، فمصر دولة تحترم التزاماتها واتفاقيتها التي توقععها مع كل الدول، بما فيها إسرائيل.
وإذا كانت مصر قد اختارت السلام خيارا استراتيجيا فان خيار الحرب مطروحا إذا تطلب الحفاظ على أمنها القومي ذلك. ودور الوساطة الذي تقوم به مصر في الوقت الراهن ينطلق- كما جاء في بيان وزارة الخارجية المصرية- من الأمن القومي المصري في المقام الأول والحفاظ على مصالح الشعب الفلسطني الذي يتعرض لحرب إبادة شاملة.
وجب التأكيد في هذا السياق على أنه لايجب على نتنياهو وحكومته اليمينية المتشددة أن تلقي بفشلها السياسي والعسكري، في الداخل والخارج، على جيرانها في مصر وفلسطين ودول أخرى.
فالمجتمع الإسرائيلي يعاني من حالة استقطاب كبيرة غير مسبوقة أوجدتها ممارسات هذه الحكومة، بدأت بماسمي التعديلات القضائية، والفشل العسكري والاستخباراتي في أحداث السابع من أكتوبر، والتراشق والتوترات والصراعات بين وزراء الحكونة الحالية في مواجهة الحرب في غزة.