تمر منطقة الشرق الأوسط يمرحلة دقيقة وحساسة، في ظل انشغال الولايات المتحدة عن قضايا الشرق الأوسط واعتزام واشنطن إبرام اتفاقية نووية جديدة طهران، وبما أدى لحدوث حراك سياسي ودبلوماسي غير مسبوق لإعادة التحالفات الإقليمية لمواجهة التهديد الإيراني.

ففي 18 مارس الماضي قام الرئيس السوري بشار الأسد بزيارة الإمارات ليُنهي عقدًا من عزلته عن العالم العربي، وفي 22 من الشهر ذاته، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بالرئيس عبد الفتاح السيسي وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد في شرم الشيخ. وفي الـ 25 من مارس أيضا عُقد في العقبة لقاء جمع بين ملك الأردن عبد الله الثاني والرئيس السيسي وولي العهد الإماراتي محمد بن زايد ورئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، وفي يومي الـ 27 والـ 28 استضافت إسرائيل في النقب قمة جمعت وزيراء خارجية الدولة العبرية يائير لبيد والولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن والمصري سامح شكري والإماراتي عبد الله بن زايد والمغربي ناصر بوريطة والبحريني عبد اللطيف زياني.


أرشيفية

وأتت قمة النقب في توقيتٍ مهمٍ للغاية بالنسبة لإسرائيل، نظرًا لاعتزام الولايات المتحدة التوقيع على الاتفاق النووي الجديد مع إيران وما سيتبعه من إسقاط العقوبات عن طهران ورفع اسم الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا ليس لإسرائيل وحدها بل لباقي دول المنطقة ولا سيما دول الخليج.

الملف النووي سبب الحراك!

يرتبط الحراك الدبلوماسي الإقليمي بالرغبة في تنسيق المواقف بشأن الملف النووي الإيراني، لأن الاتفاق النووي الوشيك يُقلق الدول السُّنية في المنطقة. كما أن الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يدفع دول المنطقة للتعاون فيما بينها لمواجهة التهديدات المشتركة، فرغم وجود قوات أمريكية في قطر والبحرين وأماكن أخرى بالشرق الأوسط، إلا أن دول المنطقة التي تخشي التهديد الإيراني تدرك ضرورة الاعتماد على النفس في حماية أمنها القومي، خاصة بعد أن رأت أوكرانيا وحيدة أمام الغزو الروسي دون أن يتدخل الغرب عسكريا لإنقاذها. وفي ظل تلك الأوضاع المتشابكة، تسعى إسرائيل للعب دور الزعامة في العالم العربي السُّني عبر إمداد دول الخليج بأنظمة الدفاع الجوي لاعتراض صواريخ إيران وطائراتها المسيرة، وسبق للبحرين والمغرب أن أبرما اتفاقيتين للتعاون العسكري مع الدولة العبرية.

إسرائيل تتحين الفرصة!

تود إسرائيل، في ظل المتغيرات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، أن تلعب دور البديل الأمريكي في المنطقة، بفضل تفوقها العسكري على دول الشرق الأوسط، مع تلقيها الضوء الأخضر من واشنطن للعب ذلك الدور. وهذا ما يتضح جليًا من خلال حضور وزير الخارجية الأمريكي لمؤتمر النقب كمجرد مشارك، تاركًا نظيره الإسرائيلي يدير المؤتمر ويصيغ أهدافة وتوصياته. وهو ما يمثل مرحلة جديدة لدور إسرائيل الإقليمي في المنطقة.

وتتحين إسرائيل الفرصة لانشاء تحالف عسكري مع الدول السنية “المعتدلة” مُستغلةً التهديد الإيراني والصواريخ التي أطلقها الحوثيون مؤخرا ضد السعودية والإمارات. وتنوي إسرائيل نشر أنظمة دفاعية في الدول السُّنية الحليفة لرصد وتدمير الصواريخ والطائرات المسيرة التي تمتلكها إيران وميليشياتها.

لماذا غاب الأردن؟

في الوقت الذي يشهد فيه الشرق الأوسط حراكاً إقليمياً غير مسبوق، تغَيَّب الأردن عن “قمة النقب” لأسبابه الخاصة، حيث فضَّل الملك عبد الله الثاني التوجه، أثناء انعقاد قمة النقب، لزيارة رام الله ومقابلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، لكسر العزلة السياسية التي فُرضت عليه منذ أن رفض صفقة القرن التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.

أرشيفية

وكان ملك الأردن قد تغيب أيضاً عن قمة شرم الشيخ، التي جرت في الأسبوع السابق لقمة النقب، وجمعت بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد. فما هي الرسالة التي أراد الأردن إيصالها؟

تهميش القضية الفلسطينية!

بدا واضحًا أن الهدف الأهم لإسرائيل من استضافة مؤتمر قمة النقب هو تهميش القضية الفلسطينية، خاصة في ظل انشغال المنطقة والمجتمع الدولي بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية، وقرب إبرام الاتفاق النووي مع إيران. لكن القضية الفلسطينية لا يمكن لإسرائيل تهميشها لأنها ستبقى في قلب المصالح القومية العربية، رغم إعراض تل أبيب عن التفاوض مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ولقد تعمدت إسرائيل عدم توجيه الدعوة لوزير الخارجية الفلسطيني لحضور القمة، لكن وزراء خارجية الدول العربية وعلى رأسهم وزير الخارجية سامح شكري أكدوا ضرورة حل القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المحورية لإنهاء النزاع في الشرق الأوسط.

من خلال ما سبق يتبن أن أهداف إسرائيل من انعقاد قمة النقب تتمثل فيما يلي:-

– استغلال مخاوف الدول العربية من إيران لتحقيق أقصى استفادة من إدارة بايدن مقابل إبرام الاتفاق النووي، ومحاولة لعب دور الريادة في المنطقة مستغلةً فزّاعة المد الشيعي الإيراني التي تهدد دول الخليج. وتسعى تل أبيب لكي يكون ذلك بمباركة أمريكية على حساب دور مصر والسعودية في المنطقة.

– توظيف انعقاد مؤتمر القمة في صحراء النقب، لتحقيق أهداف حكومة تل أبيب الرامية لاستخدام الدول العربية كورقةٍ للضغط على فلسطيني الـ 48 وتحديدًا بدو النقب الذين يتعرضون لحملة واسعة من الملاحقات والتضييق تمهيدًا لبناء العديد من المستوطنات اليهودية الجديدة.

– توجيه رسالة للسلطة الفلسطينية وقطاع غزة مفادها أن الدول العربية لم تعد تهتم بالقضية الفلسطينية، لذا ينبغي على الفلسطينيين قبول أية مبادرة سياسية تطلقها تل أبيب حتى لو كانت منقوصة ولا ترقى لطموحات الشعب الفلسطيني. وتلك رسالة مهمة جدًا بالنسبة لتل أبيب لإحباط الفلسطينيين، قبيل حلول شهر رمضان وذكرى يوم الأرض، بما يحملان من تصعيد فلسطيني ضد الاحتلال.

– توجيه رسالة إلى واشنطن بأن هناك موقفًا موحدًا من جانب إسرائيل والدول العربية السنية ضد إدارة بايدن التي تنوي إبرام الاتفاق النووي الجديد مع طهران ورفع اسم الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية، ومحاولة ملئ الفراغ الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة وإبراز قدرة إسرائيل على قيادة تحالف الدول العربية “المعتدلة”.

– تحاول حكومة بينيت من خلال تنظيم تلك القمة التاريحية تحقيق مكسب سياسي تستغله في مواجهة الأزمات الداخلية والمشاكل الائتلافية وانتقادات المعارضة. كما تستغل حكومة بينيت انشغال إدارة بايدن بالحرب في أوكرانيا، لتأكيد أولوية التصدي للتهديد الإيراني وتهميش القضية الفلسطينية.

– تحاول تل أبيب أن تجذب مصر إلى معسكر التطبيع، بعدما ظل السلام بين مصر وإسرائيل لا يتجاوز النواحي الأمنية والاستراتيجية لأن مصر متمسكة برؤيتها الخاصة التي تتبني السلام ولا تقبل التطبيع، طالما ظلت إسرائيل مغتصبة للأراضي الفلسطينية.

وأخيرا، فإن مشاركة مصر والدول العربية في قمة النقب التي استضافتها إسرائيل بمشاركة امريكية، لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية أو قبول دور ريادي لإسرائيل في المنطقة رغم سعيها لذلك، لكن المشاركة المصرية والعربية تحمل رسالة قوية لنظام الملالي في طهران بأن إصرار إيران على مواصة التدخلات السلبية في دول المنطقة والحرص على امتلاك السلاح النووي، يتسببان في إنشاء تحالفات إقليمية قوية للحد من النفوذ الإيراني، كما أن المشاركة المصرية في تلك القمة لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version