كانت مسألة تطبيع علاقات إسرائيل مع المزيد من الدول العربية والإسلامية، خاصة المملكة العربية السعودية، مطلبا ملحا كشف عنه بنيامين نتنياهو، بوساطة وضغط أمريكيين، ليستمر قطار التطبيع الذي بدأه ترامب في ولايته السابقة. وكاد أن يتحقق هذا المطلب لولا أحداث السابع من أكتوبر عام 2023م التي شنتها المقاومة الفلسطينية، فارتبكت الوقائع واختلطت الأوراق، ليتوقف قطار التطبيع عند محطته الأخيرة، ولايبدو أنه قادر على تجاوزها في المستقبل القريب.
ففي هذا السياق يمكن لعملية التطبيع على النحو الذي تطمح إليه إسرائيل أن يمثل طوق نجاة لبنيامين نتنياهو وحكومته المتشددة، وتنقذه من مظاهر الفشل العسكري والأمني في عدوانه على قطاع غزة.
وهكذا باتت عملية التطبيع مع المملكة العربية السعودية تمثل قضية مركزية في إسرائيل، بالرغم من العدوان الذي تشنه منذ قرابة تسعة أشهر ضد المقاومة الفلسطينية في غزة، والتصعيد العسكري في الجبهة الشمالية مع حزب الله اللبناني.
ولكن رغم المزايا الكبيرة التي ستعود على الدولة العبرية من التطبيع، إلا أن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة غير قادرة على تحقيق ذلك، أو ربما لا تريد التقدم نحو إحراز ذلك التطبيع المنشود الذي يشترط في جانب من جوانبه وقف العدوان على قطاع غزة. وهو ما يعني انسداد الأفق نحو التحرك العلني لإبرام اتفاق رسمي للتطبيع بين تل أبيب والرياض، على غرار اتفاقيات إبراهيم. كما أن مظاهر العدوان الذي تشنه إسرائيل على الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية ألقى بظلاله قاتمة وتداعياته السلبية على الدول التي طبعت مع إسرائيل سواء في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية أو قبلها، بدءا بمصر، مرورا بالإمارات وانتهاء بالبحرين.
خطوة أخرى نحو التطبيع!
من هنا تقدم هذه الورقة رؤية إسرائيل لمساعي التطبيع مع المملكة العربية السعودية من خلال تصور محلل إسرائيلي هو “إيلي فوده”، الذي يرى أن مساعي التطبيع بين إسرائيل والسعودية مازالت قائمة ومطروحة رغم اشتعال الحرب في قطاع غزة، مشيرًا إلى أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “هرتسي هليفي” قد اجتمع سرًا في البحرين في منتصف يونيو المنصرم – تحت مظلة القيادة المركزية للولايات المتحدة الأميركية- بكبار المسؤولين العسكريين من مصر والأردن والإمارات والبحرين، وكذلك من المملكة العربية السعودية، فيما يمثل ذلك الاجتماع خطوة أخرى نحو التطبيع المنشود، خاصةً في وقت الحرب الذي تتعرض فيه الدولة العبرية لضغوطٍ شديدة.
أرشيفية
والحقيقة هي أن هذا الكلام حق يراد به باطل، فالاجتماع بين قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية للدول المذكورة كان مخصصا في الأساس لمناقشة صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية والتوصل لوقف إطلاق النار، ربما كان من ضمن جدول الأعمال مناقشة مسألة التطبيع الذي من شروطه وقف إطلاق النار في غزة ووقف نزيف الدم الفلسطيني.
تطبيع من وراء الكواليس!
ويشير المحلل الإسرائيلي إلى أن علاقات التطبيع تحمل أوجه متعددة، ولقد تردد الحديث في إسرائيل خلال السنوات الأخيرة عن ضرورة إبرام اتفاقيات سلام “دافئ”، يختلف في طابعه عن السلام “الفاتر” الذي أبرمته تل أبيب من قبل، مع كل من القاهرة وعمَّان، وهو سلام لا يرقى لمرتبة “التطبيع” الذي كثيرًا ما يحمل دلالة سلبية عند العرب.
ويتضمن مصطلح “التطبيع” في نظر “فوده”، عدة مراحل من العلاقات، كل منها يمثل نموذجا مختلفا. إذ يمثل النموذج الأول التطبيع الرسمي الإجرائي الذي يتسم بالتعاون الأمني والاستخباراتي وأحيانا الاقتصادي. ويقوم ذلك النموذج من التطبيع في الأساس، على وجود مصالح وأعداء مشتركين. وهو يتم بشكل رئيس من وراء الكواليس، لكنه قد يحمل أيضًا مظاهر علنية في حال وجود علاقات دبلوماسية. ويتم ذلك التعاون بين المسؤولين الرسميين سواء في مكاتب الرئيس أو الملك، أو عبر المؤسسات العسكرية والاستخباراتية، أو بين الوزارات الحكومية ذات الصلة. وذلك النموذج من العلاقات هو القائم بالفعل بين إسرائيل وكل من مصر والأردن.
وحقيقة الأمر هي أن إسرائيل تريد سلاما من نوع يختلف عن السلام الذي أبرمته مع القاهرة وعمان، سلام تحقق من خلال مصالحها ورؤيتها الأمنية والعسكرية، بحيث تلعب هذه الدول دور الشرطي والراعي لمصالحها والضاغط من أجل تحقيق اهدافها لدى الطرف الفلسطيني.
التطبيع السري!
أما النموذج الثاني من التطبيع بحسب المحلل الإسرائيلي، فهو غير الرسمي، الذي يتسم بإقامة علاقات ثنائية سرية في الأساس- دون وجود علاقات دبلوماسية. وهو في الواقع، النموذج الذي تبنته إسرائيل طيلة الفترة التي سبقت إبرام اتفاقيات السلام مع مصر ثم الأردن، وما تلاها من إبرام اتفاقية أوسلو واتفاقيات إبراهيم.
وهذا زعم آخر قدمه المحلل الإسرائيل عن التطبيع السري بين مصر وإسرائيل قبل التطبيع الرسمي، فالفترة السابقة على التطبيع الرسمي بين البلدين لم تشهد تطبيعا سريا على أي مستوى من المستويات، سوى الالتزام باتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقعها الطرفان بعيد حرب أكتوبر 1973م.
التطبيع “المشروع”!
يُطلق المحلل الإسرائيلي على النموذج الثالث “التطبيع المشروع”، وهو الذي يشمل التعاون على المستويين الحكومي والشعبي مع الدولة العبرية. ويكون تعاون النظام الحاكم مع إسرائيل علنيًا في غالبيته، ولكنه لا يخلو من بعض التعاون السري. وهذا هو نموذج العلاقات القائم بين إسرائيل ودول الاتفاقيات الإبراهيمية، وهي المغرب والإمارات والبحرين.
التعاون السري عودة للوراء!
يتساءل المحلل الإسرائيلي بعد اللقاء العسكري الأمني الذي جرى في البحرين بين رئيس الأركان الإسرائيلي وبعض القادة العسكريين العرب، قائلًا: “إذا كانت إسرائيل تتعاون بالفعل عسكريًا واستخباراتيًا أثناء الحرب مع الدول العربية، رغم تعرضها لإدانة عربية شديدة، فلماذا تلجأ لإبرام اتفاق رسمي مع السعودية، خاصة إذا كان مشروطًا بقيام دولة فلسطينية أو اتخاذ خطوة جادة تمهيدًا لإقامتها؟”. ثم يرد “فوده” على التساؤل الذي طرحه بالإجابات التالية:
أولًا: إن عدم إحراز تقدم حقيقي لحل القضية الفلسطينية، قد يُعيد إسرائيل إلى وضعها القديم في الشرق الأوسط، حينما كانوا يتعاونون معها سرًا، ولا يمكنهم الاعتراف بذلك علانيةً. ولقد كان يتحتم على القيادة الإسرائيلية في السابق أن تتقبل ذلك دون أن يكون لديها خيار آخر؛ لأن الحكام العرب كانوا يخشون على حياتهم وعلى شرعية مناصبهم. ولكن في ظل عدم وجود التزام رسمي من جانب تلك الدول العربية، فستكون مثل تلك العلاقات مُعرضة للتقلبات والمخاطر بحسب الظروف والمصالح أو في حال افتضاح أمرها.
ثانيًا: إن قدرة إسرائيل على التعاون الاقتصادي مع الدول العربية مرهونة بوجود سلام حقيقي ودافئ. وتمثل منظومة العلاقات التي نشأت مع دول الاتفاقيات الإبراهيمية نموذجا لذلك. إذ لا يمكن بناء منظومة علاقات سياسية واقتصادية قوية إلا في ظل حالة من الانفتاح، كالتي صاحبت إنشاء “منتدى النقب” الذي كان يهدف في الأساس لمواجهة الملف النووي الإيراني. ولقد ضم الاجتماع الأول لـ”منتدى النقب” كل من إسرائيل والولايات المتحدة ومصر والمغرب والبحرين والإمارات، مع دعوة الأردن والسلطة الفلسطينية للمشاركة أيضا في اجتماعاته. وبالتالي لا يمكن أن يتم التعاون الاقتصادي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية إلا في ظل قيام علاقات دبلوماسية. وإذا كان حجم التعاون الاقتصادي بين إسرائيل والإمارات قد بلغ- قبل الحرب في غزة- قرابة 3 مليارات دولار، فإن حجم التعاون الاقتصادي المتوقع مع السعودية سيكون أكبر بكثير. هذا فضلا عن آفاق التعاون الاقتصادي المتوقع بين البلدين، في حال تدشين الممر الاقتصادي الذي سيربط الهند بالبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، مرورًا بالمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل.
ثالثاً: تتحول إسرائيل شيئًا فشيئًا إلى دولة “منبوذة” على الساحة الدولية، جراء تداعيات عملياتها العسكرية في قطاع غزة. وعليه يجب الأخذ في الاعتبار أن التعاون السري القائم بين إسرائيل وبعض الدول الإقليمية قد يتراجع إذا تصاعدت وتيرة الحرب الحالية. أما إذا انتهت الحرب فسيعقبها تحرك إقليمي للتقارب بين تل أبيب والرياض، مما سيعزز مكانة إسرائيل وسيشجع مزيدًا من الدول للتطبيع معها.
وختامًا، يؤكد المحلل الإسرائيلي، على أن التقدم نحو حل المشكلة الفلسطينية يمثل في المقام الأول مصلحة إسرائيلية. لكن الضربة الموجعة التي نفذتها حماس في السابع من أكتوبر الماضي، قد أصابت أغلب الإسرائيليين بالصدمة وجعلتهم لا يدركون – كما لم يدرك غالبيتهم أيضا بعد الهجوم المصري المفاجئ في السادس من أكتوبر عام 1973– أن الدولة العبرية باتت أمام حقبة جديدة تتطلب منها ردودًا ومواقف مختلفة عن التي اتخذتها من قبل، ولم تنتبه لتداعياتها.
يتبين مما سبق:
أولا: أن إسرائيل أمام مفترق طرق، يتمثل في خيار التطبيع مع دولة عربية وإسلامية كبيرة ومحورية، لها مكانة دينية واقتصادية واستراتيجية خاصة، ألا وهي المملكة العربية السعودية. ولكنني أرى أن حكومة تل أبيب الحالية بزعامة نتنياهو، لن تُقدم على التطبيع مع السعودية رغم المكاسب غير المسبوقة التي ستعود عليها وذلك لأسباب منها:
1- أن التطبيع مع الرياض سيتطلب وقف الحرب على غزة والالتزام بقيام دولة فلسطينية وهو ما أكدته الحكومة السعودية واعتبرته شرطا للتطبيع. لكن الوزراء المتطرفين في حكومة نتنياهو يرفضون ذلك الشرط السعودي لأنه سيمثل هزيمة لدولة الاحتلال وسيؤدي لإسقاط الائتلاف الحاكم الذي يمثلون أحد أركانه.
2- أن التطبيع مع الرياض سيتبعه تعاون عسكري وتكنولوجي واقتصادي غير مسبوق بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية وهو ما ترفضه إسرائيل التي لا تود زيادة الدعم الأمريكي للسعودية لا سيما في مجالات التسليح والبرنامج النووي.
3- استطاعت المملكة العربية السعودية الحد من فزاعة إيران، التي كانت تلوح بها إسرائيل وبعض الدول في الغرب، من خلال استئناف العلاقات الدبلوماسية معها وبحث أفق التعاون معها والحد من تداعيات العداء معها مالم تتدخل أطراف دولية أو إقليمية لتأجيج نار الطائفية بين الحين والحين.
ثانيا: أن إسرائيل لا تريد إبرام اتفاقيات سلام كالتي أبرمتها في السابق مع مصر والأردن، كما لا تريد العودة إلى الوراء عندما كانت تتعاون سرا مع بعض الدول العربية. لكنها تريد التطبيع على المستويين الحكومي والشعبي، على غرار الاتفاقيات الإبراهيمية التي وقعتها مع الإمارات والبحرين والمغرب.
ثالثا: لا شك أن السعودية تدرك مدى احتياج إسرائيل للتطبيع معها، وأن الحكومة الإسرائيلية القادمة– التي ستخلو حتما من الوزراء المتطرفين من أمثال بن جفير وسموتريتش- ستسعى جاهدة للتطبيع، وعليه فإن الرياض ستسعى أيضا لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة السياسية والأمنية والاستراتيجية والاقتصادية. فإلى جانب التحرك لإقامة دولة فلسطينية، ستتمسك الرياض أيضا بإبرام اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة الامريكية واكتساب التكنولوجية النووية والعسكرية لمواجهة التهديدات الإقليمية ولا سيما الإيرانية-الشيعية وكذلك الإسرائيلية.