أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي الثلاثاء  ١٢/١٠/٢٠٢١ قراراً يصبّ في مصلحة الصومال، بشأن خلافه مع كينيا حول ترسيم منطقة بحرية متنازع عليها في المحيط الهندي، يُعتقد بأنها غنية بالنفط والغاز، في قرار يمكن أن يؤجّج توتراً في المنطقة، ويعيد تشكيل الحدود البحرية للبلدين.

وقضت المحكمة بأن تؤول معظم المنطقة المتنازع عليها لصالح الصومال (حوالي 85%)، إلا أن الجانب الكيني رفض قبول قرارها، مُعللاً ذلك بعدم تلبية المحكمة طلبه بتأجيل الجلسات، وأن جائحة كوفيد-19 قد أثَّرت على فرص فريقها القانوني للاستعداد بسبب البروتوكولات الصحية، رغم أنه جلسات المحكمة أُجِّلَت ثلاث مرات منذ بدء الجائحة، فما هي جذور الأزمة بين الصومال وكينيا ؟ ومتي بدأت الأزمة فيما بينهم ؟ و ما آثار القرار علي الطرفين ؟ وما السيناريوهات المتوقعة للأزمة بعد قرار المحكمة ؟

 جذور الأزمة :

بداية النزاع عام 1960، حينما نالت الصومال استقلالها بعد أن مزقها المستعمرون إلى ثلاثة أجراء، فكان هناك الصومال البريطاني، والصومال الفرنسي والصومال الإيطالي، شطرا الصومال، تحت الاستعمار البريطاني والإيطالي، نال استقلالهما تباعًا في منتصف عام 1960، وكونا بلدًا واحدة هي جمهورية الصومال الفيدرالية، أما الصومال الفرنسي فظل حبيس الاحتلال حتى نال استقلاله عام 1977، لتتكون دولةً جديدةً اسمها “جيبوتي”.

وبعد ثلاث سنوات، استقلت كينيا عن الاستعمار البريطاني في ديسمبر عام 1963، لتولد من تلك اللحظة الخلافات بين كينيا والصومال بشأن الحدود البحرية بينهما، والتي تحوي حقولًا للنفط.

وحينما يتعلق الأمر بالذهب الأسود، فإن الصراع لا بد أن يطول، إلى غاية وجود حلٍ يُرضي الطرفين، باعتبار أن حقول النفط ثروة كبيرة تدير على البلدين أموالًا طائلةً.

بداية الأزمة

واستشرت الأزمة بين البلدين في فبراير هذا العام، وقامت كينيا بطرد السفير الصومالي من أراضيها، واستدعت سفيرها لدى مقديشو للتشاور،  جراء نزاع على مناطق التنقيب عن النفط.

وترددت أنباء وقتها عن نية  الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو بيع 50 حقلًا نفطيًا يقع بعضها في المنطقة المتنازع عليها لشركات عالمية في مزاد علني أثناء مؤتمر لندن، في وقت لا تزال المحكمة الدولية تنظر في ملف النزاع الحدودي البحري القائم بين البلدين.

ووجهت نيروبي اتهاماتٍ حينها لمقديشو بتجاهل المعايير الدولية في حل النزاعات الحدودية والخلافات السياسية من خلال بيع حقول نفطية في المناطق المتنازع عليها بين الدولتين، دون أن يتم الفصل في أمر هذه الحقول بعد.

بداية النزاع دوليًا

قصة الحدود البحرية بين البلدين تفشت بصورةٍ كبيرةٍ اعتبارًا من عام 2009، حينما رفض البرلمان الصومالي التصديق على مذكرة تفاهم تم التوصل لها بين قادة البلدين لحل الخلاف وديًا.

وفي عام 2014، اتجهت الصومال صوب محكمة العدل الدولية لتفصل في النزاع الحدود بين البلدين، وهي خطوة رفضت كينيا الاعتداد بها، واعتبرت المحكمة غير مختصة للنظر في ذلك الأمر، بيد أن الأخيرة أصدرت حكمًا في عام 2016 بأحقيتها في نظر القضية.

وقضت محكمة العدل الدولية الثلاثاء بمنح الصومال الهيمنة على الجزء الأكبر من المنطقة، وأعلنت الهيئة القضائية العليا التابعة للأمم المتحدة أنه ليس هناك “حدود بحرية متفق عليها” ووضعت حدودا جديدة أقرب لتلك التي تطالب بها الصومال، رغم أن كينيا احتفظت بجزء من المثلث البحري المتنازع عليه الذي يمتدّ على مساحة تفوق مئة ألف كلم مربّع.

المصدر : وكالة الانباء الفرنسية (فرانس بريس)

آثار القرار وأصداؤه على الطرفين:

يمنح القرار الصومال مساحة بحرية غنية بالثروات السمكية والموارد النفطية والغازية، و مما يتيح للنظام إمكانية تحقيق تنمية اقتصادية، إذا ما روعي فيها الاستغلال الإيجابي لهذه المنطقة عبر تنفيذ مشاريع تنموية واقتصادية عملاقة وذلك بالتعاون مع الشركات التجارية الكبرى والدول الشقيقة أو الصديقة في تحقيق هذا الحلم.

كذلك قد يسبب القرار قلقًا لدى الصومالييين الّذين لديهم مصالح تجارية في كينيا، إذ إن أي ردة فعل غير محسوبة من الكينيين الغاضبين عن القرار كفيلة بتعريض حياة وأموال الجالية الصومالية هناك للخطر، خاصة، إذا وجدت هذه الجماعات الضوء الأخضر من السلطات الكينية سواء عن طريق التوطؤ معها أو التقاعس عن حماية ممتلكات الصوماليين، وهو أمر محتمل وروده، ما لم تبعث السلطات الكينية رسائل طمأنة إلى الصوماليين، وتوجه في الوقت نفسه تحذيرا قويا إلى الكينيين الّذين يريدون الربط بين قرار المحكمة الدولية والمصالح التجارية للصوماليين بكينيا، علهم بذلك ينجحون في تسيس القضية وإخراجها من إطارها القانوني!.

وفي الجانب الآخر، سيؤثر القرار سلبا على كينيا، حتى وإن لم تعترف بقرار المحكمة، ذلك أن الشركات التجارية المتعاقدة معها للعمل في هذه المناطق، من المحتمل أن تفسخ عقودها وصفقاتها مع الحكومة الكينية، حيث إن كينيا وقَّعت اتفاقية  لاستكشاف في المنطقة البحرية التي كانت موضع الخلاف مع شركة “إيني” الإيطالية في عام 2012، مما يمثل انتكاسة اقتصادية كينية، كانت تحاول الفرار منها طيلة السنوات الماضية التي كانت قضية النزاع البحري في صدارة العلاقات الكينية الصومالية!.

وسياسياً، جاء حكم المحكمة في توقيت حساس لكل من البلدين اللذين يعيشان حالة استقطاب داخلي بفعل حلول موسم الانتخابات، ففي حين ما زالت الانتخابات التشريعية مستمرة في الصومال، فإن كينيا على موعد مع انتخابات رئاسية وتشريعية في خلال أقل من عام.

 ويحاول نظام الحكم في البلدين تسجيل نقاط سياسية داخلية لصالحهما، ففي الصومال، يعيش النظام السياسي حالة من النشوة بعد قرار المحكمة، خاصة أن كينيا حاولت فيما مضى التدخل سياسياً لصالح أطراف تعتقد أنها قد تتفاوض مع كينيا بدل الاستمرار في المسار القانوني، وبهذا الخصوص، يحاول الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو الاستفادة من الانتصار القانوني على كينيا لتتويج حملته الانتخابية في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها خلال الأسابيع المقبلة، وتحقيق بعض نقاط القوة أمام المعارضة.

وبالنسبة لكينيا، فإن الانتخابات المقبلة قد تكون الأكثر زخماً، كون الرئيس أوهورو كينياتا لن يستطيع الترشح لفترة ثالثة بحسب الدستور، وهو ما يجعل نائب الرئيس وليام روتو في مواجهة مع زعيم المعارضة رايلا أودينغا، والذي من المتوقع أن يحول قرار  المحكمة إلى ورقة لتعزيز حظوظه الانتخابية.

السيناريوهات المتوقعة

هناك أكثر من سيناريو متوقع للأزمة حسب الظروف والمعطيات الراهنة، وذلك انطلاقا من قرار محكمة العدل الدولية  بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ولعل أبرز هذه السيناريوهات ما يلي:

السيناريو الأول: التصعيد والمزيد من التدهور في العلاقات بين البلدين

 ويعنى هذا حصول خطوات تصعيدية من البلدين، وتبنّي الدولة الكينية لسياسة الانتقام نظرا لتكبدها خسائر اقتصادية كبيرة بسبب تعاقدها مع شركات تنقيب أوروبية، وقد تتطور الأزمة للمقاطعة الدبلوماسية وتعليق التعاون في كافة المجالات.

و في حال استمرت كينيا برفض الامتثال للقرار الدولي، فقد يُقدِّم الصومال شكوى إلى مجلس الأمن الدولي وإلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للمطالبة بامتثال كينيا لقرار المحكمة  وفي المقابل، قد تلجأ كينيا إلى إغلاق المخيمات التي تؤوي مئات الآلاف من اللاجئين الصوماليين وإجبارهم على العودة إلى بلادهم، حيث سبق أن هددت الحكومة الكينية بالفعل باللجوء إلى خيار كهذا في إطار محاولاتها دفع الصومال إلى سحب القضية.

ويؤيد ذلك الاحتقان الشعبي في كلا البلدين تجاه المسألة، وحدة اللهجة المستخدمة في الحديث عن الموضوع بالنسبة للساسة والزعماء الكينيين، بالإضافة إلى الخطوات التصعيدية من قبل كينيا مؤخرا، مما يضيق الخيارات على الطرف الكيني الذي سيواجه معارضة داخلية شرسة بسبب ذلك، ويدفعه لتصعيد الأزمة في محاولة للمراوغة على الصعيد الداخلي

ويعد هذا السيناريو الأكثر ترجيحاً على المدى القريب، في ظل توظيف نظامي البلدين لقرار المحكمة لتحسين موقفهما السياسي والانتخابي، وتعزيز النزعة القومية لمواطنيهما.

السيناريو الثاني: رضوخ جميع الأطراف لحكم المحكمة الدولية وعودة العلاقات إلى طبيعتها

ورغم أن الواقع السياسي في كل من البلدين اليوم لا يشير إلى حدوث هذا السيناريو إلا أنه يبقى احتمالا واردا وقد يكون الأوفر حظا بالنسبة لما تقتضيه مصالح القوى الدولية والإقليمية، التي ستلعب دورا رئيسيا في تهدئة الأزمة لحماية مصالحها الاقتصادية.

مهما يكن من أمر فإن من المؤكد أن يظل تأثير الأزمة وانعكاساتها  يحكم المشهد السياسي في المنطقة لسنوات عديدة، وقد يؤدي إلى عاصفة سياسية تعقّد الأمور كثيرا بالنسبة لإحدى الدولتين أو لكليهما.

 وختاما

وفقا للمعطيات السابقة يتجلى بوضوح أن الأزمة ليست مسألة حدودية فحسب بقدر ما هي صراع على المخزون النفطي المكتشف في المنطقة، وهو ما يضع العلاقات الصومالية الكينية رهنا للتجاذبات الدولية والإقليمية للسيطرة على الموارد، ويطيل من أمد الأزمة التي لا تبدو أنها في طريقها للحل رغم أنه يفترض أن يكون قرار المحكمة الدولية انهي الخلاف في تلك القضية.

إن منطق الجوار يقرر عودة العلاقات الصومالية الكينية إلى طبيعتها لمصلحة البلدين في المقام الأول، ولمصالح شركاء المنطقة والجهات المعنية باستقرارها، ومن المؤكد أن الأزمة الحالية أحدثت شرخا في النسيج الاجتماعي على مستوى الشعبين الكيني والصومالي، وخلقت شعورا بعدم الثقة بينهما، وهذه الحالة غير قابلة للاستمرار في ظل الارتباطات التجارية والاجتماعية التاريخية بين الشعبين، وينبغي على القيادة السياسية في  البلدين التوصل إلى حلول مرضية للطرفين قائمة على تحقيق المصالح ومراعاة حسن الجوار وخلق أرضية خصبة للاستثمار المتبادل والتعاون من أجل مستقبل أفضل لمنطقة القرن الإفريقي.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version