ورده عبدالرازق
باحثة في الشأن التركي
اندلعت الاحتجاجات في تركيا منذ 19 مارس الجاري في أكثر من 50 محافظة احتجاجا على اعتقال السلطات التركية لرئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلوا، في احتجاجات هي الأكبر في تركيا منذ أحداث غيزي بارك عام 2013، لاسيما بعد صدور قرار الإدانة ضده على خلفية تحقيقات في قضايا فساد تتعلق بشبهات حول إدارته لمشروعات بلدية إسطنبول وإساءة استخدام السلطة، ومن ثم توقيفه في أحد السجون التركية، وهو ما اعتبره أنصاره محاولة سياسية لإبعاده عن المشهد السياسي.
وتأسيسا على ذلك، يركز هذا التحليل على أهم الدوافع والظروف التي جرى على إثرها اعتقال إمام أوغلو في هذا التوقيت، وأهم التأثيرات المحتملة لتلك الحادثة على الداخل التركي.
محركات عدة
على ما يبدو أن حادثة اعتقال شخصية مثل أكرم إمام أوغلوا باعتباره المنافس الأبرز لأردوغان لها أبعاد عديدة ومتشابكة، تتمثل في:
1. البعد القضائي: فلم يكن أمر الاعتقال بحق إمام أوغلوا وليد اللحظة، لأن التحقيق كان جاريا منذ فترة بعد شكاوى وبلاغات قدمت ضد أكرم إمام أوغلو تتعلق بقضايا فساد وتعاون مع تنظيمات إرهابية، ويشير مراقبون إلى أن الشكاوى قدمها بعض زملائه في إدارة البلدية، يضاف إليها تصريحات محرم إنجه -المرشح الرئاسي السابق- بأن أحوال البلدية ساءت في عهد إمام أوغلوا. بالتالي وفقا لهذه السردية مثل أمر الاعتقال إجراءً قضائيا طبيعيا، وهو ما أكده أردوغان وحزبه، إلا أن ذلك لم يكن السبب الرئيس أو الوحيد لصدور مذكرة التوقيف، لأن الحادثة يمكن استغلالها سياسيا من قبل الحكومة.
جدير بالذكر أن هذه المرة لم تكن الأولى التي يمثل فيها أكرم إمام أوغلوا أمام القضاء التركي، فقد سبق اتهامه بـ “إهانة موظف دولة بسبب قيامه بمهامه” بعد تصريحاته بحق المدعي العام لإسطنبول، إكين غورليك، وعائلته، وقبلها كان قد أدين بتهمة الإساءة إلى أعضاء المجلس الأعلى للانتخابات عام 2022.
1. البعد السياسي: وهو ما يتعلق بتخوفات جدية لدى أردوغان وحزبه من صعود أكرم إمام أوغلوا المتواصل بعد اقتناصه لولاية إسطنبول مرتين على حساب مرشحي العدالة والتنمية، إلى جانب استطلاعات الرأي التي تشير إلى تفوقه على أردوغان شخصيا، وعليه جاء قرار التوقيف قبل ساعات من إعلان -دعائي- لإمام أوغلوا بترشحه لانتخابات للرئاسة ٢٠٢٨. وعليه، يمكن القول إن أردوغان – غالبا – أراد التخلص من عقبة إمام أوغلوا باكرا للتفرغ لمحاولة تحايل قانوني ودستوري تسمح له بالترشح مرة أخرى، بالتزامن مع عمل الحزب على تلميع شخصية أخرى بديلة لأردوغان داخليا تحسبا لأية مستجدات، وكل هذا سيكون أفضل بغياب إمام أوغلوا عن المشهد.
وفيما يرتبط أيضا بمسألة التوقيت، فإن أردوغان انتهز الفرصة لتصفية خصومه السياسيين بعد تحقيقه عدة انتصارات سياسية في الداخل والخارج، أسهمت بشكل ملحوظ في تعافي شعبية أردوغان وحزبه، وذلك بعد التطورات التي حدثت في الملف السوري، وبعد انتزاعه خطابا تاريخيا من عبد الله أوجلان يدعو لنزع سلاح التنظيمات الكردية، وهو ما عُد نصر سياسي بتوقيع أردوغان، بما يخدم التوجهات القومية لغالبية الأتراك.
2. البعد الاستراتيجي: ويرتبط بالتحولات الراهنة في الشرق الأوسط ككل، وربما نتذكر أن الشرق الأوسط القديم بدأ تشكله من تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو. فمن المتحمل أن تكون الأحداث الأخيرة في تركيا مدعومة بأيادٍ خارجية، مثل إسرائيل، إذا يري البعض أن إسرائيل تستغل المشهد الحالي في تركيا عبر وسائل إعلام تابعة لها في تركيا وأوروبا، خاصة وأنه قبل يوم من اندلاع الاحتجاجات نشرت صحيفة “إسرائيل هيوم” تقريرا اعتبر تركيا هي الخطر الأكبر حاليا على إسرائيل بعد استبعاد إيران.
وبعيدا عن صحة هذا الطرح من عدمه، فهل لدى إسرائيل أسباب جدية تدفعها للقلق من تركيا؟ الإجابة: نعم، حيث أصبحت تركيا منافسا إقليميا بارزا لإسرائيل بعد التقدمات التي أحرزتها أنقرة على الأرض في سوريا سياسيا وعسكريا، بما جعلها على مقربة من الحدود الإسرائيلية. فرغم أن تركيا وإسرائيل يجمعهما صداقة وتنسيق استراتيجي عالٍ، إلا أن هذا لا يمنع أن توسع أي طرف سيكون على حساب الآخر بشكل يجعل من احتمالات الصدام قائمة أيضا، فإسرائيل لم تنجُ من حصار إيران لتجد نفسها محاصرة من تركيا، لذا من مصلحتها إشغال أردوغان داخليا الآن. هذا الطرح مدعوم أيضا من الحكومة التركية باعتباره استراتيجية تقليدية تقضي بتوظيف فكرة العدو الخارجي لأغراض الحشد والتعبئة خلف القائد السياسي.

فقد سبق واستهدفت إسرائيل قواعد عسكرية في تدمر بريف حلب قالت إنها تشكل تهديدا عليها في ظل تبدل الفاعلين في سوريا بعد سقوط الأسد، وقد جاءت الضربة الإسرائيلية في سياق ما أثير مؤخرا عن تحركات عسكرية تركية بالقرب من تدمر في وسط سوريا، كما سبق وكشف موقع “واللا” الإسرائيلي عن اتفاق بين أنقرة ودمشق يقضي بتسليم مناطق قرب تدمر للجيش التركي مقابل دعم اقتصادي وعسكري، وتخصيص قاعدة عسكرية لتركيا في تدمر بحجم قاعدة “رامشتاين” الأمريكية في ألمانيا.
سيناريوهات مطروحة
فالمشهد الراهن في تركيا قد يؤول إلى ٣ سيناريوهات، يمكن توضيحها كالتالي:
1. السيناريو الأول: ويدعمه أنصار أردوغان، ويقضي بأن تركيا ستعود قوية وخالية مما يعطل حركة الإنجازات الداخلية خلال الفترة الأخيرة، أي كما كانت خلال العقد الأول للعدالة والتنمية، إذ كانت خالية من المنافسين والصراعات الحزبية الداخلية بعد إقصاء الخصوم السياسيين لأردوغان، وعلى رأسهم إمام أوغلوا الذي تنتظره معركة شاقة مع القضاء التركي، فضلا عن ضرورة إثبات صحة شهادته الجامعية التي سبق وأن تم إلغائها لكي يتمكن من الترشح للرئاسة، هذا في حالة لم يصدر حكم قضائي ضده.
2. السيناريو الثاني: يشير إلى أن تركيا في طريقها إلى مزيد من التصعيد الذي قد يُلحقها ببعض دول الشرق الأوسط الأخرى التي شهدت تحولات لافتة خلال العامين الماضيين، لتنضم بذلك إلى خريطة الشرق الأوسط الجديد، في ظل رؤية أمريكية إسرائيلية جديدة للمنطقة لن تكتمل بدون تركيا. خاصة وأن الأزمة صاحبها تداعيات اقتصادية جمة بعد أن خسرت سوق الأسهم 67 مليار دولار خلال ثلاثة أيام بعد أن انخفض المؤشر العام بأكثر من 15%، في أكبر خسارة تتعرض لها البورصة التركية منذ انهيار بنك “ليمان براذرز” قبل 17 عاما، مما استدعي البنك المركزي التركي لضخ 26 مليار دولار في الأسواق لدعم الليرة التركية التي سجلت بدورها أكبر انخفاض أسبوعي في عامين، الأمر الذي سيؤثر بدوره على حجم الاستثمارات وغيرها من المؤشرات الاقتصادية بالسلب، ومن ثم شعبية الحزب الحاكم.
3. السيناريو الثالث: وهو الأقرب، ويرتبط بطريقة تعامل أردوغان مع الوضع، ففي الغالب لم يكن أردوغان ليتوقع ردة الفعل الشديدة لأنصار حزب الشعب الجمهوري وما تبعها من تأثيرات اقتصادية، بالتالي قد يقع على عاتقه وحزبه أولا عدم التعامل العنيف مع المتظاهرين، وهو حاصل حتى الآن، ثم محاولة كسب ثقة الشارع مجددا، سواء من خلال تقديم مزايا داخلية، أو تحقيق إنجاز جديد في الخارج يسهم في تلميع صورته، وفي هذا الخصوص يملك أردوغان أوراقا عدة لتهدئة المشهد الداخلي، مثل الحرب الأوكرانية في ظل التقدمات الراهنة في محادثات السعودية، والتفاهم الكبير مع ترامب الذي يفكر في إعطاء أردوغان مقاتلات f16 و f35، والأهم، سوريا من خلال إظهار تقدمات سياسية أو عسكرية، وحتى اجتماعية تتعلق بملف اللاجئين، بهدف تسويقها داخليا.
وختاما، يمكن القول إن الشرق الأوسط القديم تشكلت خارطته أولا من تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية وتوقيع اتفاقية سايكس بيكو، ومن بعدها معاهدة سيفر التي كانت سببا في صعود أتاتورك وقيادته لحرب الاستقلال، ثم استبداله معاهدة سيفر بلوزان التي أعادت رسم خارطة تركيا والمنطقة بأكملها. ولهذا فإن حلم استعادة الأمجاد العثمانية ظل يراود حزب العدالة والتنمية ولهذا سُموا “العثمانيون الجدد”، إلا أن الظروف والفاعلين قد تغيروا، وأبرزهم أمريكا وإسرائيل، لذا فإن ما يجري في تركيا الآن إما يعني أن أردوغان قد يكون شريكا في إعادة رسم خارطة المنطقة بالتوافق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، أو أنه مستهدف كباقي دول المنطقة، وهو ما سيتضح خلال الفترة المقبلة.