مما لا شك فيه أن كثرة الاحتجاجات الشعبية ضد ممارسات النظام الإيراني وسياساته، والتي تجددت مرة أخرى على خلفية مقتل الفتاة الكردية “مهسا أميني، في 14 سبتمبر 2022م، تكشف لنا مدى الافتراق الأيديولوجي والتباعد السياسي بين المجتمع والنظام ومدى تقلص القاعدة الجماهيرية المؤيدة له، حتى بات الحفاظ على شرعية بقائه ومشروعية استمراره شاغله الأول وهمه الرئيس. خاصة أن هذه الاحتجاجات المتكررة تأتي في وقت حرج تمثل فيه الأزمات الداخلية تحديا خطيرا للنظام. وهنا تبدو التساؤلات منطقية: لماذا تتجدد الاحتجاجات في إيران؟ وكيف أصبح النظام الإيراني عاجزا عن معالجة الأسباب التي تدفع المجتمع إلى دائرة الغضب للحد الذي يفاقم من أزمته داخليا ويزيد من حرجه خارجيا؟ وما هي خصائص هذه القاعدة الغاضبة ومطالبها التي تفرضها على الساحة السياسية، حتى باتت تؤرق النظام الذي يعاني اليوم أزمة بنيوية تهدد بقاءه؟

أزمة النظام البنيوية

من المعروف أن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران يقوم على تفسير راديكالي معتزلي لمسالة الحاكمية في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، والذي استخرجه آية الله الخميني من بطون كتب التراث وفتاوى قدامى الفقهاء من أمثال «الحسن بن يوسف» الملقب بالعلامة «الحِلّي» (ت1325م) و«شمس الدين محمد بن مكي العاملي» (ت1384م) والعلامة «أحمد النراقي» (ت1829م) الذين كانوا يرون أن للفقيه ولاية عامة على الناس تشمل الحكم والولاية السياسية. وأن لهذا الفقيه الحق في ممارسة السلطة الزمنية علاوة على القضاء والإفتاء.

وانطلاقا من هذا تبنى آية الله «الخميني» تفسيره الأصولي ورؤيته السياسية حول ولاية الفقيه، خلال الدروس التي كان يلقيها في منفاه بالحوزة العلمية بالنجف تحت عنوان «الحكومة الإسلامية» حتى أقام نظام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979م، والذي يعد نموذجا للأولجارشية Oligarchy الذي كرس فيه السلطات السياسية والولاية الدينية للفقهاء دون غيرهم من الفئات والقوى الاجتماعية الأخرى، بحكم القواعد الفقهية والمبادئ الدستورية. ومن ثم، تحول الفقهاء من فئة اجتماعية كانت تعيش على الهامش السياسي، بحكم القواعد الفقهية أيضا، إلى قوة سياسية تنفرد بكل السلطات وتتمتع بجميع الصلاحيات.

وقد استدعى بناء القاعدة الشعبية لنظام الجمهورية الإسلامية، قيام الفقهاء بتعزيز تحالفاتهم مع بعض القوى الاجتماعية الفاعلة، لا سيما «البارزار» حيث الوفرة المالية والقوة الاقتصادية التي ترتبط بالقاعدة الاجتماعية الأعرض عبر شبكة التوزيع التقليدية الواسعة، وأن يخضعوا المؤسسة العسكرية التقليدية والأجهزة الأمنية لسلطة الولي الفقيه، بالتوازي مع تأسيس الحرس الثوري بوصفه جيشا عقيديا منوط بالدفاع عن جمهورية النظام وإسلامية الدولة. إلى جانب إخضاع «الجامعات» حيث الحراك الطلابي المؤثر، والسيطرة على النقابات والاتحادات الفئوية الخاصة بالأطباء والمهندسين والأكاديميين والمعلمين والنقابات العمالية

وقد أفضى انفراد الفقهاء بالسلطة، على مر العقود الأربعة الماضية، إلى إصابة النظام بأزمة بنيوية حادة، تمثلت شواهدها في:

  • ضعف سلطات الدولة الثلاث وازدواج مؤسساتها، وعدم قدرتها على ترتيب الأولويات بين الوفاء بأعباء التمدد خارجيا، بين ضرورات التنمية الداخلية.
  • تفاقم الأزمة الاقتصادية، للدرجة التي عمقت التفكك الاجتماعي وفضت التحالف الذي كان قائما بين الفقهاء والقواعد الجماهيرية بالجامعات والنقابات الفئوية والعمالية وأرباب المهن البسيطة، التي أخذت تعبر عن عدم رضاها بالاحتجاجات والإضرابات المتكررة.
  • عجز الدولة عن حل معضلة الأقليات العرقية بالأقاليم الديموغرافية الرخوة في الأهواز واذربيجان وبلوشستان وكردستان، وبالتالي تفاقم التوتر بين المركز وأبناء هذه القوميات.
  • عدم قدرة النظام على منح مزيد من الحريات الاجتماعية على نحو يشبع رغبة الأجيال الجديدة في بناء مجتمع حداثي تنعم فيه بعدالة التوزيع والمساواة والحق في حياة كريمة، وتتمتع فيه المرأة بالحرية في ممارسة دورها بالمجتمع دون قيد أو تعسف.
  • عدم رغبة النظام في إصلاح الحياة الحزبية، على الرغم من أن التيارات والأحزاب السياسية فقدت مصداقيتها، ومن ثم فشلها في الاحتفاظ بالقاعدة الجماهير الملتفة حول النظام؛ خاصة أنها حولت ممارساتها إلى مجرد وسيلة لتحقيق المكاسب الفردية والتكسب السياسي والاجتماعي على حساب المصلحة العامة للدولة.
  • عدم رغبة النظام في فض تحالفه مع الحرس الثوري والأجهزة الأمنية، أو وضع حد لهيمنتها على مؤسسات الدولة المختلفة.
  • انفراد التيار الأصولي المتشدد بجميع سلطات الدولة، الأمر الذي أدى أن تعيش إيران انسدادا سياسيا، ازداد تعقيدا، بفوز الأصولي المتشدد «إبراهيم رئيسي» برئاسة السلطة التنفيذية، 18 يونيو 2021م، وبتولي أصولي آخر «محسني اژه اى» رئاسة السلطة القضائية، بعد أن سبق أن هيمن أيضا على السلطة التشريعية.

وفي هذا الإطار، برزت إحداثيات سياسية جديدة تجسد الخلل الذي أصبا توزيع الأثقال الحزبية الحقيقة، بعد أن استأثر بها المؤيدون لولاية الفقيه المطلقة وقادة الحرس الثوري والمنتفعون من النظام. الأمر الذي أفضى إلى زيادة الفراغ الحزبي الذي بدأت تتحرك فيه قوى الخط الثالث بين اليمين الأصولي المحافظ واليسار الديني المعتدل، وأخذت تعبر عن المجتمع بكل قضاياه وأزماته.

بزوغ الخط الثالث

تاريخيا، ظهر هذا الخط السياسي بوصفه حركة شبابية فاعلة منحت «محمد خاتمي» عشرين مليون صوتا أهلته للفوز برئاسة الجمهورية في مايو 1997م، أي أنه انبثق من رحم الثورة الإسلامية وكان معترفا بالإمام الخميني وليا فقيها، ولكنه، اختلف حول قيادة المرشد الأعلى للثورة آية الله «علي خامنئي» صحيح أن ظهور هذا الخط جاء متأخر نسبيا على الساحة السياسية، إلا أنه كان منطقيا أيضا؛ لعدة أسباب، منها:

  • الحرب العراقيـة الإيرانية التي زجت بشباب الأمة على مدى ثمان سنوات إلى ميادين القتال، بدلا من ميادين السياسة
  • وجود آية الله الخميني على رأس السلطة وتمتعه باحترام وقبول جميع الإيرانيين. فضلا عن أنه كان قادرا على سحق أية قوة داخلية قـد تهدد النظام الإسلامي الذي اسسه دون أي اعتراض أو عائق يذكر.
  • عامل الوقت الذي كان تحتاجه الأجيال الجديدة لاستيعاب التطورات السياسية وبلوغ النضج السياسي والاجتماعي اللازم. في ظل سياق عام مثير للإحباط كانت تتصدره أخبار الفساد المتغلغل في أجهزة الدولة مؤسساتها، والصراع على السلطة.
  • الانقسام السياسي الحاد بين التيارات السياسية، وتبني كل تيار منها خطابا راديكاليا ذا شحن معنوي، يستهدف الحفاظ على استمرار تأييد قواعد الشعبية من ناحية، وإثارة مخاوف الجماهير من التيار المنافس له من ناحية أخرى. الأمر الذي عزز ثقافة إلغاء الطرف المنافس وأصاب الحياة السياسية بالتشنج والتوتر المتزايد.

وعلى الرغم من أن تيار الخط الثالث لم يصدر أي بيانات سياسية تعلن عن وجوده، في ذلك الوقت، إلا أنه من خلال رصد ومتابعة مراحل تطوره يمكن وصفه بأنه أصبح تيارا منقلبا على مبادئ الثورة الإسلامية وقيمها، داعيا إلى التمسك بالقيم الإنسانية والثوابت الاجتماعية والهوية الوطنية. ولا يعنيه الانتماء للتيار الأصولي المحافظ ولا للتيار الإصلاحي المعتدل، بقدر ما يعنيه العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، والحداثة. ومع هذا يمكن أن نلقي الضوء على بعض من خصائصه، على النحو التالي:

أولا: أنه يرفض تيار تماما الصيغة الحالية لولاية الفقيه، وينادي بأن تشغل الكوادر والكفاءات المتخصصة المناصب التي يشغلها الفقهاء في النظام، والحد من صلاحيات من يبقى منهم في بعض المناصب.

ثانيا: أنه ينادي بإدخال تعديلات على الدستور بصيغته الحالية؛ لكونـه لم يعد يلبي احتياجات المجتمع ومطالبه. كما لم يعد مناسبة لتكييف علاقات إيران الدولية في ظل المتغيرات المتسارعة.

ثالثا: أنه يؤيد المجتمع المدني، والحريات الشخصية والاجتماعية، بما في ذلك حرية التعبير، وحرية تشكيل الأحزاب السياسية.

رابعا: أنه يرفض استخدام الدين في السياسة، أو تشكيل الأحزاب على أساس ديني، أو هيمنة طبقة من المجتمع على الطبقات الأخرى باسم الدين.

خامسا: أنه لا يوافق على وضع الحالي للسلطة القضائية، بما في ذلـك الاعتقالات السياسية والإعدامات التي تنفذ بحق المعارضين السياسيين والأقليات العرقية والدينية بالبلاد، ويرفض وجود المحاكم الثورية، ويعترض على الأوضاع اللاإنسانية بالسجون، ومعاملة السجناء والمعتقلين فيها.

سادسا: أنه يرفض تعامل النظام مع المـرأة بالأسلوب الحـالي، ومصادرة حريتها باسـم الإسلام. أو مع الشباب، والأقليات الدينية، وينصحون بتحديد صلاحيات بعض رجال الدين.

والحقيقة أن النظام الإيراني أصبح اليوم أمام تيار جماهيري متنامي يرفض ولاية الفقهاء على المجتمع ومصادرة حرياته وحقوقه باسم الدين، وأدرك أن لعبة المنافسة الصورية بين تيار إصلاحي معتدل، وآخر أصولي محافظ، ما هي إلا مجرد أداة استدعاء مؤقت تفرضه ضرورات إدارة العملية الانتخابية استكمالا لصورة نظام يحرص فقط على نسب المشاركة. بدليل أن الانتخابات المتكررة لم تُحدث أي تغيير  في ديناميات الجمهورية الإسلامية، يؤهلها لتعديل ممارساتها أو يطور سياساتها وقيمها التقليدية. كما لم تؤد إلى تحقيق طموحات الأجيال الجديدة، التي لم تعد معنية إسلامية الدولة ولا بجمهورية النظام، بقدر ما هي معنية بوطنية الدولة وأحقية جميع أفرادها في الحرية والتمتع بمقدرات بلادهم التي أهدرها الولي الفقيه على المليشيات والجماعات المسلحة التابعة له بالمنطقة.

دلالة الاحتجاجات وشعاراتها

في الإطار القيم والمبادئ العامة التي ينادي بها تيار الخط الثالث، خرجت الاحتجاجات الشعبية، منذ عام 1998م وها هي تحتج اليوم على انعدام حرية التعبير، وتدهور وحقوق الإنسان، والاعتقال التعسفي والتعذيب بالسجون، والإعدام بحق المعارضين، ومصادرة حرية المرأة، واستشراء الفساد في نظام الحكم، واستبداد الولي الفقيه، وارتفاع الأسعار وتافم نسب البطالة والفقر بالمجتمع، وتدهور البينة التحية بالمناطق ذات الأغلبية غير الفارسية، وإهدار ثرورات الدولة في تمويل محور المقاومة بينما أكثر من 60% من الشعب يعيش تحت خط الفقر

ومن ثم، برهنت الشعارات التي رفعها المحتجون على وعي تيار الخط الثالث بجميع قضاياه الوطنية، وقدرته على صياغة قيمه بواقعية، وتحديد أهدافه بطريقة جعلت المجتمع يدرك أهمية الحداثة والحرية مقارنة برجعية النظام واستبداده. بما يعني أن مستقبل إيران أصبح رهنا بقدرة هذا الخط على تحقيق شعاراته. وبتحليل بعضا من هذه الشعارات نجد أن قيم الخط الثالث، أصبحت تتلخص في:

رفض ولاية الفقيه، فنجد أن المحتجين نادت بالموت للمرشد الأعلى للثورة (مرگ بر خامنه‌ای) ووصفته بالديكتاتور (مرگ بر دیکتاتور) وتوعدته بالإطاحة به هذا العام، حتى ولو كانت الدماء ثمنا لذلك (امسال سال خونه، سیدعلی سرنگونه) فكم من الجرائم التي ارتكبها باسم ولاية الفقيه .. فالموت أيضا للولاية (این همه سال جنایت، مرگ بر این ولایت). وقد انسحبت الشعارات المنددة بالمرشد الأعلى على ابنه «مجتبى» تعبيرا عن الرفض المبرم لمحاولات توريثه الولاية؛ فالموت أقرب له من أن يرى هذا المنصب (مجتبی بمیری، رهبری رو نبینی). كما جسدت الشعارات أيضا رفض وجود الفقهاء في حياة الوطن بعد اليوم فلم يعد المجتمع يريده وليا لا شيخا ولا مللا وصيا عليه، وصبت اللعنات على كل آية الله في البلاد (نه شیخ می‌خوایْم نه ملا، لعنت به آیت‌الله)

رفض النظام الإسلامي، إذ وصمت الشعارات خامنئي بالقاتل ووصفت حكمه بالباطل (خامنه‌ای قاتله، حکومتش باطله) وبالتالي صرخ المحتجون: لا نريد الحكومة الإسلامية (حکومت اسلامی نمی‌خواهیم، نمی‌خواهیم) ولا نريد الجمهورية الإسلامية (جمهوری اسلامی نمی‌خواهیم، نمی‌خواهیم) فالموت للجمهورية الإسلامية (مرگ بر جمهوری اسلامی)

تأكيد الهوية الوطنية، وهي القضية الأولى باهتمام المجتمع، ولذا تعالت أصوات المحتجين بشعار سنقاتل ونموت ونستعيد إيران ممن اختطفوها (می‌جنگیم، می‌میریم، ایران رو پس می‌گیریم) فإيران أولى من أي بلد آخر: فلا غزة ولا لبنان؛ فروحي فداء لإيران (نه غزه نه لبنان جانم فدای ایران)

الحقوق المدنية، فقد طالبت الشعارات بالحرية للمرأة، والحياة الكريمة، والحرية للمواطن والوطن والتعمير (زن، زندگی، آزادی؛ مَرد، میهن، آبادی) ونادت أيضا بالعدالة والحرية ورفض الحجاب الإجباري للمرأة (عدالت آزادی نه به حجاب اجباری) فلا نريد حكومة مناهضة للمرأة (حکومت ضد زن، نمی‌خوایْم نمی‌خوایم)

الترابط الوطني، عكست الشعارات مدى الوعي الجماهيري بسياسات النظام التي استهدفت بث الفرقة وتأجيج العنصرية بين أبناء الوطن الواحد من العرقيات المختلفة؛ كي ينعدم التعاطف أو الترابط بين أبناء المجتمع ومن ثم السيطرة عليهم، فرفع المحتجون شعار كردستان  كردستان عين ونور إيران (کردستان، کردستان، چشم وچراغ ایران) من كردستان إلى طهران تسيل دماء كل إيران (از کردستان تا تهران، خونین تمام ایران)

وبناء على ما تقدم، يمكن القول إن جميع الاحتمالات واردة بشان الوضع الحالي في إيران، والتي باتت مقبلة على تحول دراماتيكي حتمي تتغير فيه الإحداثيات السياسية بالدولة في ظل الانسداد السياسي الحالي، والذي ستكون له تبعاته الإقليمية والدولية. ولكن يظل التوقيت رهنا بمدى قدرة المعاضة على دفع النظام في الاتجاه المطلوب، وقدرة النظام على التعامل مع الشارع المحتج

وعلى الرغم من هذا، فإن متابعة الاحتجاجات الأخيرة تجعلنا لا نتسرع في الحكم على أنها ستؤدي اليوم الى الاطاحة بالنظام؛ نظرا لأنها احتجاجات ذات منشأ اجتماعي التي لا تخلوا من عنصر التحريض الخارجي أيضا. ولذا تقوم تقديرات طهران السياسية والأمنية دائما بشأن أي احتجاجات داخلية على فرضية ضلوع الأطراف الخارجية الثلاث الولايات المتحدة وإسرائيل ومنظمة مجاهدي خلق في التحريض على النظام الإسلامي. وبالتالي تتوالى التصريحات الرسمية التي تتهم المحتجين بالمغرر بهم، وبوجود عناصر مندسة بينهم تعمل لحساب أجندات خارجية، وذلك لإفقاد هذه الاحتجاجات بعدها الوطني وسحب المشروعية عنها بما يبرر الإجراءات الأمنية حيالها. وعادة ماتصدر هذه التصريحات فور صدور أي تصريحات امريكية تؤيد لحرية المواطنين في الاحتجاج. وهنا يتحول الأمر إلى فاكسين لاستمرار النظام وليس اضعافه وإبقائه حيا وليس الإجهاز عليه.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version