فيما يعيد إلى الأذهان التقارب السعودي الإيراني بعد حرب الخليج الثانية، يحدث اليوم أيضًا تقارب بنفس النهج بين الرياض وطهران، فقد أعلنت عدة مصادر عن عقد الجانبين محادثات سرية في العاصمة العراقية بغداد، ومن غير المعلوم التفاصيل الدقيقة لتلك المحادثات، إلا أنها دارت في مجملها حول القضايا ذات الاهتمام المشترك لدي كلا الجانبين مما يطرح العديد من التساؤلات حول دوافع الطرفين لعقد مثل تلك المحادثات وتأثيراتها علي الوضع الإقليمي.
الدوافع والأهداف
من خلال قراءة متفحصة للمناخ العام الذي انعقدت في ظله الاجتماعات المشتركة، نجد أن كلا الطرفين قد دُفع إلى هذه المحادثات دفعاً، فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال قد استبعدت قبل عدة سنوات – على لسان ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان – فتح أي حوار مع إيران وذلك لعدم وجود أي نقاط مشتركة في السياسة الخارجية لكلا البلدين، نجدها اليوم علي لسان ولي العهد نفسه تصف إيران بأنها دولة جوار، وتتطلع لوجود علاقات طيبة وطبيعية معها.
أما إيران التي يختلف نظامها السياسي اختلافاً جذرياً وعقائدياً مع النظام السعودي، بل وتعتبره نظامًا “غير إسلامي”، نراها اليوم قد قبلت بالجلوس مع المملكة العربية السعودية علي طاولة واحدة، والحق أن لهذا التغير الدراماتيكي في موقف البلدين ما يفسره ويبرره.
السعودية
العلاقات السعودية الإيرانية- أرشيفية
فبالنسبة للمملكة العربية السعودية قد تضافرت عدة عوامل جعلت من تخفيض التوتر مع إيران وربما استعادة العلاقات الطبيعية معها أمراً ملحاً.إذ حدث تحول كبير علي صعيد العلاقات السعودية الأمريكية، مع تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الامريكية، فعلي عكس سابقة الرئيس دونالد ترامب، الذي كان يقدم دعماً غير مشروط لدول الخليج وعلي رأسها المملكة العربية السعودية من حيث التغاضي عن مسائل محورية كانت لعقود تشكل جزءًا مهمًا من استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية في الشرق الأوسط من قبيل حقوق الانسان والديمقراطية، ذهب جو بايدن الي استخدام خطاب قاسٍ تجاه المملكة العربية السعودية من قبيل التشديد علي مسائل حقوق الإنسان، ولعل أبرز ما أُثير في هذه القضية هي قضية اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي الذي اُتهمت المملكة باغتياله، هذا بالإضافة إلى حرب اليمن التي وصفها الرئيس الأمريكي بأنها مأساة إنسانية، وعلي ما سبق توقفت الولايات المتحدة عن بيع أنواع من الأسلحة الهجومية للمملكة العربية السعودية نظراً للأداء السيء للمملكة في القضايا السابقة مما يعني أن الدعم الأمريكي أصبح مشروطاً بعدد من القضايا تري الإدارة الامريكية أنها من الأهمية بمكان.
سياسة الضغوط القصوى الأمريكية ضد إيران – أرشيفية
هذا بالإضافة إلي تخلي الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سياسة الضغوط القصوى (Maximum Pressure) على طهران التي اتبعها سابقه دونالد ترامب مما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تتبنى النهج الصدامي مع طهران بوصفه النهج الأساسي في العلاقات الأمريكية الإيرانية، وبالتالي فإن المملكة قد تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع طهران إذا استمر النهج التصعيدي على ما هو عليه، كما أن لحرب اليمن تبعات أرهقت اقتصاد المملكة المعتمد بالأساس على المشتقات النفطية، فقد تكبدت المملكة منذ بداية الحرب مليارات الدولارات تكلفة للحرب ناهيك عن القتلى والجرحى المدنيين والعسكريين والضربات الحوثية التي تستهدف البنية التحتية في السعودية وخاصةً النفطية منها، لذا تأمل المملكة من الوصول إلى نوع من التفاهمات مع إيران حول الحرب في اليمن مما يساعد لاحقاً في التوصل إلي اتفاق سلام شامل تلتزم به جماعة الحوثي التي رفضت مؤخراً – بإيعاز من إيران – مبادرة سعودية للسلام في اليمن.
أما بالنسبة للطرف الآخر وهو إيران، فقد أدت التطورات الإقليمية والدولية الأخيرة إلى تهيئة المناخ لإيران من أجل الدخول في محادثات مع المملكة حول القضايا الإقليمية، فالبيئة الإقليمية لإيران هي بيئة معادية وفي أحسن الأحوال غير صديقة، لذا تأمل إيران من الدخول في محادثات مع المملكة وهي أكبر دول الخليج وزناً، في تخفيض حدة التوتر الإقليمي، هذا التوتر الذي تفاقم بصورة كبيرة بعد اتفاقيات السلام الأخيرة المنعقدة ما بين الإمارات والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلي أن إيران تسعى من محادثاتها إلى ضمان عدم اتجاه المملكة العربية السعودية إلي التطبيع مع إسرائيل من خلال التفاوض معها على بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك.
أما داخلياً، فيسعى التيار الإصلاحي بقيادة الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، إلى إعادة ترتيب أوراق السياسة الخارجية استعداداً للانتخابات الرئاسية، فتطبيع العلاقات السعودية الإيرانية سيعطي دفعة للتيار الإصلاحي في الانتخابات وهو أمر يحرص عليه هذا التيار من خلال تلك المفاوضات، التي تأتي في الوقت الذي طالبت فيه السعودية وبعض دول الخليج بالاشتراك في المحادثات النووية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي رفضته إيران ولم تلتفت إليه القوى الكبرى، ولعل تلك المحادثات تأتى كبادرة حسن نية من إيران تجاه السعودية، من حيث النقاش حول بعض القضايا الأكثر إلحاحاً في المنطقة وفي نفس الوقت إبقائها خارج المحادثات النووية ذات الأهمية الكبرى بالنسبة إلى إيران.
العلاقات مع الإمارات والبحرين – المصدر سبوتنيك
تداعيات المحادثات الإيرانية – السعودية
في تقرير لمجلة فورين بوليسي، أشارت إلي أن محادثات إيران لم تقتصر فقط على المسؤولين السعوديين – وإن كانت هذه المحادثات هي الأكبر والأكثر عمقاً في تناولها للقضايا الإقليمية – ولكن هناك أيضاً محادثات إيرانية أخري مع مسئولين إماراتيين وأردنيين ومصريين، ولعل هذا الحدث أي توسيع نطاق المحادثات لتشمل أبرز الدول في المنطقة العربية (إن صح) يُفصح عن تحول جذري في العلاقات العربية الإيرانية بشكل عام، فهذه المحادثات تعطي انطباعاً أن إيران – أو على الأقل الإدارة الحالية في إيران – تريد خفض التصعيد والتوتر وتطبيع العلاقات بشكل عام مع دول المنطقة سواء دول الخليج أو القوى الإقليمية البارزة في الوطن العربي كوفي مقدمتها مصر.
ولعل لتلك الرغبة الإيرانية ما يفسرها، حيث تري طهران أن في قرب الوصول لاتفاق نووي ومن ثم رفع العقوبات الغربية عليها مجالاً لإحداث نقلة نوعية في الاقتصاد الإيراني الذي يتملك مقومات الازدهار من خلال فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي المباشر الذي سيتدفق من كبرى الشركات الغربية بعد رفع العقوبات. ولكن المناخ غير المستقر في المنطقة والأجواء العدائية بين إيران والدول العربية وخصوصاً الخليجية منها قد تجعل الشركات العالمية أكثر تردداً في الاستثمار في إيران، لذا تعمد إيران الى خفض التوتر في المنطقة قدر الإمكان حتى تحصد أكبر قدر من الاستفادة من مرحلة ما بعد العقوبات.
أما بالنسبة للدول العربية، فعلي الرغم من أن المحادثات الحالية لم تكشف عن تطور ملحوظ إلا أن التوصل إلى تفاهمات مع إيران بشأن أهم القضايا العالقة ذات الاهتمام المشترك قد تؤدي إلى تطور ملحوظ في مساعي خفض التصعيد على مستوى الوطن العربي ككل وتحجيم دور إيران السلبي في المنطقة كما سيساعد على الوصول إلى تفاهمات أو حتى حلول حول أبرز القضايا المشتعلة في الإقليم، كالقضية اليمنية علي سبيل المثال، أو القضية السورية وغيرها من القضايا الهامة. كما أن نجاح تلك المفاوضات في تحييد إيران وجعلها أقل خطراً، لربما سيُسهم في عودة القضية الفلسطينية لتكون الركيزة الأساسية للنظام العربي الرسمي مجدداً.
كما أن قدوم إيران والدول العربية، من تلقاء نفسها على التفاوض دون دوافع خارجية، سيُضفي على التفاهمات المُنتظرة صفة الاستمرارية والثبات. فضلًا عن أن غياب الولايات المتحدة عن هذه المحادثات يحمل دلالات هامة، تؤكد تراجع الدور الأمريكي في المنطقة وأن تركيز الولايات المتحدة الجديد سينصب على منطقة شرق أسيا وبحر الصين الجنوبي وليس الشرق الأوسط كما جرت العادة لعقود طويلة.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version