شهدت الأيام القليلة الماضية، أزمة جديدة داخل دير السلطان التابع للكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، وذلك إثر قيام عدد من الرهبان الإثيوبيين بنصب خيمة داخل الدير القبطي ورفعوا عليها علم إثيوبيا، الأمر الذي دفع رهبان الدير بقيادة الأنبا أنطونيوس، مطران القدس والشرق الأدنى، إلى الاعتصام دفاعًا عن حق مصر في الدير، في ظل تواطؤ الشرطة الاسرائيلية مع الإثيوبيين، والذى يتزامن مع تصاعد حدة الخلاف بين الجانبين المصري والإثيوبي بسبب إصرار أديس أبابا على تنفيذ عملية الملء الثاني لسد النهضة بشكل أحادي دون مراعاة مشاكل دول المصب مصر والسودان، وبما يطرح تداعياته السلبية على المناخ العام للاستقرار والأمن في الأقاليم.
تجدد الاشارة الى أن هذه ليست المرة الأولى التي تقتحم الأزمات فيها دير السلطان القبطي المتنازع عليه مع الإثيوبيين في ظل تواطؤ الشرطة الإسرائيلية معهم، ففي أكتوبر من عام 2018، نظم مطران القدس والشرق الأدنى، الأنبا أنطونيوس، ورهبان وراهبات وشعب الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية، وقفة احتجاجية اعتراضًا على ترميم الدير دون علم الكنيسة المصرية.
وكان وفد من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قد أجرى عام 2016جولة من المفاوضات فى القدس مع وفد الكنيسة الإثيوبية بخصوص دير السلطان المملوك للكنيسة القبطية، وذلك بحضور ممثلى السفارتين المصرية والإثيوبية ومندوبى الأمن وبطريرك الروم الارثوذكس، حيث تتعرض ممتلكات كنيسته لأضرار بالغة من جراء عدم ترميم الدير، وقد عرض وفد الكنيسة القبطية رؤيته حول قضية دير السلطان وطالب بعمل بروتوكول شامل يتضمن الفصل فى الملكية والحيازة وإعطاء أولوية للترميم فى ضوء قرارات المحكمة وإتفاقية (الاستاتسكو) لعام 1898 التى تقضى بعدم المساس بالوضع الراهن فى الأماكن المقدسة ودعمتها معاهدة “برلين” التى أُبرمت فى نفس العام، منتظراً من الطرف الإثيوبى إجابة على الأسئلة والاستفسارات التى قدمها الوفد المصرى.
الإثيوبي
إثيوبيون يقتحمون دير السلطان المملوك للكنيسة المصرية في القدس ويرفعون العلم – أرشيفية
يقع دير السلطان على سطح مغارة الصليب وهى إحدى كنائس القيامة وهو الممر الطبيعى لكنيسة القيامة، كان قد أهداه السلطان صلاح الدين الأيوبى للكنيسة القبطية تقديراً للدور الوطنى الذى قام به الأقباط فى المعارك ضد الجيوش الصليبية التى إحتلت القدس، وتعويضاً لهم عما أصابهم من أضرار نتيجه لمظاهر الإضطهاد التى تعرضوا لها بالإستيلاء على ممتلكاتهم وعدم السماح لهم بزيارة الأراضى المقدسة طوال فترة إحتلالهم.
وقد ساهمت العلاقة الوثيقة بين الكنيستين المصرية والإثيوبية فى تسهيل استضافة الكنيسة القبطية للرهبان الأحباش بالدير لمدة تزيد على ثلاثة قرون، وقد حاول الرهبان الأحباش أكثر من مرة إستغلال أى توتر يحدث بين مصر والسلطات الأجنبية المشرفة على الأماكن المقدسة ( التركية ، البريطانية ، الأردنية..) فى محاولة إقناعها بمنحهم حق الملكية لأى جزء من الدير، إلا أن السلطان العثمانى عبد الحميد أصدر حكماً بتثبيت ملكية دير السلطان للأقباط الأرثوذكس وكذلك السلطات البريطانية والأردنية التى رفضت منحهم هذا الحق.
قامت سلطات الإحتلال‏ ‏الإسرائيلية‏ خلال حرب الإستنزاف بالتنسيق مع نظيرتها الإثيوبية والرهبان الأثيوبيين لإستغلال إنشغال القساوسة المصريين بمراسم الإحتفال فى كنيسة القيامة بعيد‏ ‏القيامة المجيد‏ فى 25 إبريل عام 1970 وطرد الرهبان الأقباط بمعاونة وتواطؤ قوات الأمن، مع تغيير كوالين الكنيسة المصرية وتسليم المفاتيح الجديدة للرهبان الأحباش، وبما دفع مطران القدس (المصرى) لرفع دعوى أمام المحكمة العليا الاسرائيلية بالقدس فأصدرت حكمها فى 16 مارس 1971 بالإدانة الصريحة للقوات الاسرائيلية.
وأثبت الحكم الاعتداءات على رجال الدين الاقباط وحكمت المحكمة بإعادة الدير المغتصب ولكن الحكومة الاسرائيلية أصدرت‏‏ ‏قراراً‏ًًًًًًًًً فى 28 مارس‏ 1971 ‏بتشكيل‏ ‏لجنة‏ ‏من‏ ‏وزراء‏ ‏الخارجية‏ ‏والعدل‏ ‏والشرطة‏ ‏والأديان‏ لدراسة‏ ‏الموضوع‏ ‏وتقديم‏ ‏التوصيات‏ ‏لمجلس‏ ‏الوزراء فى إطار سياسة التسويف والمماطلة التى تنتهجها ، كما رفعت دعوى امام المحكمة العليا بالقدس فحكمت هذه المحكمة أيضا بالاجماع فى 9 يناير 1979 بأحقية الكنيسة المصرية فى تسلم دير السلطان وكرر الحكم إدانة المحكمة لتصرفات الحكومة الاسرائيلية، كما أمرت‏ ‏وزير‏ ‏الشرطة‏ ‏بإعادة‏ ‏مقدساتنا‏ ‏المغتصبة‏ ‏إلينا، و‏قامت‏ ‏بتغريم‏ ‏كل‏ ‏من‏ وزير‏ ‏الشرطة‏ ‏وأسقف‏ ‏الأحباش‏ ‏بمبلغ‏ 1500‏ ليرة‏ ‏إسرائيلية، ونشر‏ ‏قرار‏ ‏المحكمة‏ ‏فى‏ ‏كل‏ ‏الصحف‏ ‏العربية‏ ‏والإنجليزية والعبرية‏.
دير السلطان المملوك للكنيسة المصرية في القدس المحتلة – أرشيفية
وقد دفع هذا الموقف البابا الراحل “شنودة الثالث” بطريرك الكرازة المرقسية لإصدار قرار بمنع الأقباط من زيارة الأراضى المقدسة لحين عودة دير السلطان ، وكذلك للتضامن مع المسلمين الرافضين لاحتلال اليهود للقدس وباقى الأراضى العربية المغتصبة، إلا أن ذلك لم يسهم فى الضغط على الحكومة الاسرائيلية لإعادة الدير أو التخلى عن أطماعها فى المناطق المقدسة، الأمر الذى يتطلب تصعيد الضغوط على الحكومتين الاسرائيلية والإثيوبية للحصول على إعتراف واضح بأحقية الأقباط فى ملكية الدير، وهو مايصعب تحقيقه بدون اللجوء لمحكمة العدل الدولية لإستصدار قرار دولى يفصل فى الخلاف القائم بين الكنيسة القبطية والإثيوبية حول الأحقية التاريخية فى ملكية الدير.
 مع عدم التجاوب مع أية مقترحات بشأن حل هذه المشكلة بالتراضى بين الأقباط والأثيوبيين بالتنازل عن جزء من الدير للإثيوبيين، فى ظل تبنى الرهبان لمواقف متشددة وتعمدهم إثارة الشغب مع تمتعهم بدعم الحكومة الإثيوبية وإتجاههم لإعتبار هذا التنازل حجة فى عدم أحقية الأقباط بملكية الدير.
ولا شك فإن تحرك القيادة الكنسية في مصر يرتكز على حل الأمور بهدوء وبالوسائل القانونية بالنظر للطابع العقائدى الذى يحكم تسوية تلك القضية والتعقيدات المرتبطة بجوانب تسويتها، الا أن الأزمة الراهنة والتي حرص فيها الرهبان الأحباش على رفع علم الدولة الإثيوبية على مدخل الدير يتطلب ضرورة تدخل الحكومة المصرية تكثيف جهودها لدعم مطالب الكنيسة القبطية بإستعادة الدير المغتصب.
وذلك بنسخ كافة الوثائق والحجج القانونية التى تثبت وتؤكد ملكية الأقباط للدير وتعميمها على بعثاتنا الدبلوماسية لإحاطة الدول المعتمدين لديها، وكذا المنظمات الدولية ( الأمم المتحدة – مجلس الأمن – اليونسكو ..) بأبعاد القضية وكافة الأضرار التى تعرضت لها الأملاك التاريخية القبطية فى القدس نتيجة إهمال الإثيوبيين فى التعامل مع الأيقونات الأثرية النادرة فى الدير، فضلاُ عن وضع تلك المشكلة على رأس الموضوعات محل الخلاف المؤثرة على تطور العلاقات الثنائية مع إسرائيل بإعتبارها المسئول الأول عن تلك المشكلة.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version