أدلى المقدم المتقاعد “شنول أوزبك” -أحد أفراد دائرة العمليات الخاصة في الجيش التركي-بتصريحات لصحيفة “طرف” التركية عام 2010، أكد فيها أن ستة عشر ضابطًا تم إرسالهم إلى الولايات المتحدة لتلقي تدريبات خاصة عام 1948، أي قبل 4 سنوات من انضمام تركيا إلى حلف الناتو، بينهم الزعيم السياسي القومي “ألب أرسلان توركيش” الذي أسس فيما بعد حزب الحركة القومية. ومن ثم أسس “دانيش كارابلين” –أحد الضباط 16-ما سُمّي بـ”دائرة العمليات الخاصة” بصورة سرية عام 1952، وكان يتم اختيار عناصرها وكوادرها من المدنيين، وتتشكل على طريقة “خلايا” لا يعرف أي عضوٍ منها الأعضاء الآخرين، والتي سميت منظمة الذئاب الرمادية، وعرفت فيما بعد بـ”الأرجنكون”.
محمد آغار - أرشيفية
محمد آغار – أرشيفية
الدولة العميقة في ظل حكم أردوغان
للدولة العميقة في تركيا المعاصرة جناحان أساسيان؛ أولهما: فلول أو بقايا الأطلسيين الموالين للمحور الغربي الأمريكي؛ ويمثلهما في الجهاز البيروقراطي القوميون اليمينيون المتطرفون بقيادة وزير الداخلية الأسبق محمد آغار، وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي. ووزير الداخلية الحالي سليمان صويلو يمثل الجناح الأطلسي في نظام أردوغان. ويطلق على هذا الجناح أيضًا تنظيم غلاديو التركي، الجناح التركي للتنظيمات السرية التي أسسها حلف الناتو للتصدي للأطماع التوسعية السوفيتية أثناء الحرب الباردة، ثم قام بحلّها بعدما انتهى خطر مواجهة ساخنة بين المعسكرين الأطلسي والسوفيتي، لكن الجناح التركي قاوم الحل والتصفية لعدم رغبته في فقد القوة والنفوذ الذين كسبهما خلال نصف قرن.
ثانيهما: الأوراسيون الذين لجأوا إلى الحاضنة الروسية الصينية الإيرانية بعدما فقدوا الحاضنة الأطلسية، ويعتبر زعيم حزب الوطن دوغو برينجك من أبرز رجال هذا الجناج، وصحيفة “أيديليك” وموقع “أودا تي في” من أهم وسائل إعلامه. علمًا أن للدولة العميقة مجموعات صغيرة أخرى تتفرع عن هذين الجناحين.
أردوغان وجماعة الخدمة
تصادف صعود أردوغان وحزبه العدالة والتنمية لسدة الحكم، بروز حركة فتح الله كولن (حركة الخدمة) كممثل قوي للمجتمع المدني التركي على كافة الأصعدة، إذ قامت حركة كولن بجهود ونشاط حثيثة جعلت بفضلها المجتمع المدني متقدمًا على السلطة السياسية في كثير من المجالات، خاصة القطاع الاقتصادي. ذلك أن كلاً من جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك (توسياد)، الذي كان يضم الشركات التركية الكبرى التقليدية، وجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين “موصياد” الموالي لحكومة أردوغان، واتحاد رجال الأعمال والصناعيين الأتراك “توسكون” القريب من حركة الخدمة، استغل انفتاح تركيا على دول الجوار، وقام بتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول المجاورة على نحو غير مسبوق.
جاءت حركة الخدمة في مقدمة منظمات المجتمع المدني التي ساندت “المشاريع الديمقراطية والاقتصادية” لحكومة أردوغان، حيث أخذت بذلت جهودها لتوسيع دائرة مشاريعها الرامية إلى إرساء دعائم السلام والحوار والتعايش، إلى جانب مشاريعها التعليمية والاقتصادية، في كل شبر من أرض تركيا وكل أنحاء العالم. تتبين جهودها المضنية في هذا المضمار إذا علمنا أنها استطاعت فتح مدارس وجامعات في 170 دولة، وأن اتحاد توسكون وشركات تعليمية تابعة لحركة الخدمة كانت قد وصلت إلى مناطق نائية في القارة الأفريقية حيث لم تكن فيها قنصليات وسفارات تركية بعدُ.
كانت تركيا تعيش في تلك الآونة “ربيعًا” من كل النواحي وعلى كل الأصعدة، بفضل التوافق بين السلطة السياسية والمجتمع المدني لأول مرة في تاريخ الجمهورية الحديثة. يؤكد أغلب المحللين أن الجهود الرامية إلى تأسيس “الدولة المدنية” كسبت زخمًا كبيرًا في الفترات الأولى من حكم أردوغان، بعد أن وضعت لبناته الأولى حكومات الأحزاب اليمينية بدءًا من تسعينات القرن الماضي.
فتح الله كولن – أرشيفية
الدولة العميقة (الأرجينكون) تظهر مجددًا
هذا التقارب أزعج تنظيم أرجنكون وحلفاءه الداخليين والخارجيين إلى حد كبير، فعملوا على إحداث بلبلة وفوضى من أجل تقديم حكومة أردوغان غير قادرة على تأمين البلاد وإدارتها؛ لذا شرعوا في البحث عن طرق لاسترجاع المواقع السياسية والاقتصادية التي فقدوها خلال العقدين الأخيرين. ففي يوم 15 نوفمبر 2003، شهدت تركيا ما سجلته صفحات التاريخ “هجمات إسطنبول”؛ إذ قامت شاحنتان مفخختان بتفجير معبدين يهوديين في إسطنبول أسفر عن مقتل 28 شخصًا، أغلبهم من الأتراك، وإصابة ما لا يقل عن 300 آخرين. بعد خمسة أيام فقط من هذين التفجيرين، جاءت عمليتان مشابهتان لهما في 20 نوفمبر، حيث انفجرت شاحنتان مفخختان أيضًا في مقر بنك “أتش أس بي سي” (HSBC) والقنصلية البريطانية، مما أفضى إلى مصرع 30 شخصًا وإصابة 400 آخرين. وقد قتل في هذين التفجيرين العديد من البريطانيين أيضًا، منهم القنصل العام البريطاني “روجر شورت”، ولكن أغلب الضحايا كانوا من الأتراك.
السعي لهدم تحالف أردوغان والمجتمع المدني (حركة الخدمة)
كرّس تنظيم أرجنكون جهوده لتحطيم تحالف أردوغان وحركة الخدمة؛ حيث مارس الضغط على رجاله في الحكومة والمؤسسة العسكرية من أجل اتخاذ موقف معارض من حركة الخدمة. ونتيجة هذه الضغوطات لم يجد أردوغان وجميع أعضاء الحكومة آنذاك بُدًّا من التوقيع على قرار “مكافحة حركة الخدمة وعرقلة أنشطتها في الداخل والخارج” خلال اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي عام 2004، أي بعد عامين من وصول أردوغان إلى الحكم في تركيا.
وقد ورد في قرار مجلس الأمن القومي، الذي كشفت عنه لـ”للرأي العام” لأول مرة جريدة “طرف” في عام 2013، أن “فعاليات حركة النور وفتح الله كولن كانت ضمن القضايا التي تم نقاشها في مجلس الأمن القومي المنعقد في 24 حزيران 2004، وقد توصل الأعضاء إلى ضرورة إعداد خطة عمل لمكافحة أنشطتهم في الداخل والخارج، وقرروا إبلاغ الحكومة بقرار التوصية المتخذ في هذا الصدد”.
تصادف هذا مع رفض فتح الله كولن مبايعة أردوغان حول مشروعه الخاص كخليفة للمسلمين في العالم مستخدمًا نفوذ وسمعة مؤسسات حركة الخدمة التعليمية والاقتصادية المنتشرة في كل أنحاء العالم، مفضلا استقلال حركة الخدمة بدلاً من التبعية، وهو الأمر الذي جعل أردوغان يكنّ له كراهية شديدة ويعتبره عائقًا كبيرًا أمام مشروعه وأنه يجب التخلص منه مثل مخلفات الأطلسيين والأوراسيين، الذين سبق الإشارة إليهما فيما سبق، واللذان يمثلان الدول العميقة في تركيا.
أردوغان يُنشئ دولة عميقة
شرع أردوغان ورجاله في تدريب الكيانات القديمة التابعة للناتو من الجهاديين في كل العالم الإسلامي، على عمليات المداهمة والقنص وغلق الطرق والتخريب والإنقاذ والخطف، والعلوم الاستخباراتية، وحرب العصابات، وعمليات القوات الخاصة، والحروب النفسية، والعمليات البرية، والحماية، والتخريب، وطرق الاستجواب، ونقل أسلحة ومعدات عسكرية إليهم، لكي ينشؤوا منهم جيوشًا موازية تحت مظلة شركة صادات الأمنية بقيادة تانري فردي قائد اللواء المدرع الثاني في إسطنبول المطرود من الجيش لانتمائه الديني.
المؤسسة الدينية تروج لمشروع أردوغان
من أكبر المؤسسات التي سخرها أردوغان لمشروعه هي مؤسسة الشؤون الدينية برئاسة علي أرباش الذي أعاد تصميم المؤسسة على مبادئ الإسلام السياسي الأردوغاني وشارك في المؤتمر العام الثالث لمركز الدراسات الاستراتيجية للمدافعين عن العدالة التابع لتانري فردي وتحدث فيه عن ضرورة تأسيس الاتحاد الإسلامي وسنّ الدستور الإسلامي الذي أعده المركز. كما استغل أردوغان المؤسسة الدينية، سواء تحت رئاسة علي أرباش الحالي أو سلفه محمد جورمَزْ، في إضفاء الشرعية على إجراءاته من جهة؛ وتضليل وتكفير المنظمات والجماعات الإسلامية المعارضة له أو المختلفة عنه من جهة أخرى، كحركة الخدمة وجماعة الفرقان بقيادة الشيخ ألب أرسلان كويتول.
الرئيس التركى “أردوغان” – أرشيفية
مستقبل أردوغان السياسي في ظل صراع الدولة العميقة
تعيش تركيا الآن صراعًا شديدًا بين الدولة العميقة وأردوغان، إذ تعمل الدولة العميقة التابعة للأرجنكون بكل قوة على إسقاط حكم أردوغان وذلك بإحداث فوضى عارمة في البلاد بالعزف على وتر الجماهير الغاضبة، مستغلة الأزمة الاقتصادية، ومشكلة اللاجئين الأفغان، والكوارث البيئية التي تشهدها البلاد كالحرائق والزلازل، وهذا ما أكده الكاتب الأمريكي ستيفن كوك في تقرير أعده لمجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، حيث أكد أن الأزمات التي تعيشها تركيا تهدد قدرة الرئيس التركي على فرض سيطرته على البلاد، مما يزيد من احتمالات حدوث احتجاجات واسعة النطاق، وزيادة العنف والصراعات السياسية في قمة الدولة التركية.
بيد أن أردوغان ورفاقه يحاولون الخروج من ذلك الصراع منتصرين عبر الترويج لنظرية المؤامرة لتبرير فشلهم في مختلف الملفات خاصة الاقتصادية منها وللتستر على عدد من الأزمات آخرها أزمة حرائق الغابات.
وفي هذا الإطار صرح مستشار رئيس حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا ياسين أقطاي محذرًا من مغبة الانقلاب: “إن الانقلابات سرقة وانتهاك لكل المعايير والقيم والدساتير وبأن “الانقلاب طريقة غير شرعية للوصول للحكم وسبب المشاكل، والحل الحقيقي يأتي بالطرق البرلمانية والسياسية”.
وفي مقابلة مع إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة لوّح أردوغان بنظرية المؤامرة متهمًا خصوصه السياسيين باستغلال حرائق الغابات لانتقاد حكمه قائلاً: ” كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم، حدثت زيادة كبيرة في حرائق الغابات في بلدنا، ولا ينبغي استغلال الوضع لتحقيق غايات سياسية”.
لكن يوما بعد يوم تتزايد الانتقادات لحكم أردوغان داخليا وخارجيًّا، عبر فيديوهات يتم بثها لمواطنين أتراك ينتقدون تعاطي الحكومة مع أزمة حرائق الغابات، ومؤخرًا اتهم الممثل الشهير إيمري كيناي حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان بعدم إخماد حرائق الغابات في رسالة فيديو تلقت ملايين الزيارات عبر مختلف منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
والسؤال الذي يطرح نفسه حاليًا، هل يمكن لهذه الحملة أن تحقق أهدافها وتسقط أردوغان من كرسي الحكم؟ أم أن أردوغان بترويجه لنظرية المؤامرة سيخرج منتصرًا، بل ويستغل تلك الأحداث في مزيد من قمع خصومه السياسيين باتهامهم بأنهم إما إرهابيون أو عملاء ضد الدولة؟
المراجع:

* ياوز أجار، قصة تركيا بين أردوغان الأول والثانى
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version