لم يكن الانقلاب العسكرى الذى شهدته بوركينا فاسو الواقعة فى غرب أفريقيا بعيد عن التوقعات، بل أنه جاء فى أعقاب شهور من الاحتجاجات المناهضة للحكومة والمطالبة باستقالة الرئيس روش مارك كابورى من السلطة، و التمرد العسكرى لمجموعة من الجنود الذى اندلع فى 23 يناير 2022 ليتطور بشكل سريع إلى انقلاب عسكرى تمت الإطاحة فيه بالرئيس، وعلى الرغم من إعلان قادة الانقلاب تعليق العمل بالدستور وحل الحكومة والبرلمان وإغلاق الحدود، إلا أنه بعد أيام أعلنو إعادة العمل بالدستور وهو ما يؤكد حالة التخبط بين قادة الانقلاب خاصة بعد إعلان الاتحاد الافريقى ومنظمة الإيكواس تعليق عضوية بوركينا فاسو.

وقد قاد العقيد بول هنرى داميبا زعيم الحركة الوطنية للحماية والاستعادة، الانقلاب العسكرى فى بوركينا فاسو، بعد أسابيع معدودة من قرار ترقيته من قبل الرئيس وتعيينه قائدا للمنطقة العسكرية الثالثة التى تتبع لها العاصمة واجادوجو، والتى تعد واحدة من أهم المناطق العسكرية فى البلاد ليلتحق داميبا بجيل جديد من الضباط الشباب الطامحين للسلطة، على غرار العقيد آسيمى جويتا الذى قاد انقلاب عسكرى جديد فى مالى 2021 وأطاح بالرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان ووزير الدفاع سليمان ديوكوريه، وأعقبه تعيين رئيس المجلس العسكرى انذاك العقيد آسيمى جويتا لمنصب “رئيس الانتقال”، والعقيد مامادى دومبيا فى غينيا كوناكرى، الذى كان يرأس تجمع القوات الخاصة (GPS)، وهى قوة خاصة مدربة ومسلحة بشكل جيد، أنشأها الرئيس ألفا كوندى عام 2018 وعين دومبيا لقيادتها إلى أن قام بالانقلاب عليه، وقد استغل جويتا ودومبيا الصعوبات التى تواجه بلادهم لقلب نظام الحكم.

وعلى الرغم من أن بوركينا فاسو دولة حبيسة إلا أنها تتوسط إقليم غرب إفريقيا، وتعد مدخلاً إستراتيجيًّا من وإلى دول أقاليم غرب ووسط وشمال إفريقيا، فضلاً عن دول منطقة الساحل والصحراء والدول المطلة على خليج غينيا، لذلك فأن الوجود أو التمركز فى بوركينا فاسو واتخاذها قاعدة انطلاق يمنح ميزة إستراتيجية تساعد على التمدد وبسط النفوذ فى هذه المنطقة المهمة من إفريقيا والغنية بالثروات والموارد الطبيعية المختلفة.


أرشيفية

الإخفاق فى مواجهة الإرهاب

يعد الانقلاب العسكرى الاخير فى بوركينا فاسو التاسع من نوعه، حيث شهدت ثمانية انقلابات عسكرية منذ استقلالها عام 1960م، وعلى الرغم من وجود أسباب رئيسية فى الانقلابات العسكرية التى حدثت فى بوركينا فاسو وذلك من ترسيخ سياسة الانقلابات العسكرية لدى النخبة فى بوركينا فاسو عوضًا عن الاحتكام للانتخابات وانعدام الممارسة الديمقراطية، وتدنى الأوضاع الاقتصادية بالشكل الذى جعل بوركينا فاسو تتصدر أكثر الدول فقرًا وتراجعًا فى مستوى التنمية فى العديد من المؤشرات الدولية، فضلًا عن النزاعات الإثنية وممارسات التطهير العرقى التى تقوم بها مجموعات متشددة ، وعدوى الانقلابات العسكرية من دول الجوار حيث شهدت غرب أفريقيا 3 انقلابات عسكرية خلال الأشهر الـ 17 الماضية (تشاد فى 20 أبريل 2021 بعد مقتل الرئيس إدريس ديبى فى اشتباكات مع متمردين وتولى المجلس العسكرى زمام الأمور برئاسة نجل الرئيس محمد ديبى – مالى 25 مايو 2021 – غينيا كوناكرى 6 سبتمبر 2021)، فضلًا عن نجاح هذه الانقلابات واستمرار من قامو بها فى السلطة.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك سبب رئيسى فى الانقلاب الأخير يختلف عن السنوات السابقة وذلك نتيجة الفشل فى مواجهة الارهاب والتصدى للجماعات الإرهابية وشعور بعض قوات الأمن، بإخفاق الرئيس فى إعطائهم الدعم الكافى ضد المسلحين المرتبطين بكل من القاعدة وتنظيم داعش ، فضلًا عن مجموعات التمرد من دول الجوار، وبخاصة مالى وكوت ديفوار والنيجر، فقد كانت بوركينا فاسو ملاذًا آمنًا لهذه الجماعات، فيما يشبه اتفاقًا مع نظام “كمباورى أو يغض الطرف عنه لأسباب الاستفادة من خدمات هذه المجموعات، ومجموعات الجريمة المنظمة والصغيرة، التى وجدت مكانًا ممتدًّا فى بوركينا فاسو فى ظل رخاوة الدولة والانشغال الدائم بحماية النظام الحاكم، حيث تسببت هجمات المتشددين التى بدأت فى عام 2015 فى مقتل أكثر من 2000 شخص وأجبرت 1.5 مليون شخص على ترك منازلهم، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.

روسيا أم فرنسا… هل التدخلات الخارجية وراء الانقلاب…؟

يعتبر التواجد العسكرى الفرنسى فى بوركينا فاسو قليل جدًا حيث تضم بوركينا فاسو ما يقرب من 300 جندى فرنسى، يعملون فى مهمات سرية، لذلك فإن معظم التدخلات العسكرية الفرنسية فى بوركينا فاسو مركزها من مالى والنيجر، إلا أنه مع ذلك يمثل هذا الانقلاب العسكرى الأخير تهديد للنفوذ الفرنسى فى الساحل الافريقى، فضلًا عن أنه يشكل فشلا تاما لسياسة فرنسا التى زعمت أنها تعزز جميع مبادئ التناوب الديمقراطى، وتحسين الوضع الأمنى والاقتصادى لدول الساحل، كما أن الفشل الفرنسى فى مكافحة الارهاب وزيادة العمليات الإرهابية كان سبب رئيسى فى حدوث الانقلاب.

لذلك يمكن القول أن هذا الانقلاب يمثل خصمًا من الرصيد الفرنسى خاصة أنه من المتوقع أن ينتهج القادة فى بوركينا فاسو نفس النهج الذى انتهجته مالى فى التفاوض مع الجماعات الإرهابية الموالية لتنظيم القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين)، وذلك بعد الفشل فى مواجهتها وهو النهج الذى يلقى قبولًا شعبىًا كبيرًا نظرًا لرغبة شعوب الساحل الأفريقى فى إنهاء المعاناة اليومية بسبب الارهاب والأفعال الإجرامية التى ترتكتبها الجماعات الإرهابية والعنف المفرط من قبل قوات الأمن الذى لا يستهدف الإرهابيين فقط، وهو ما ظهر فى بيان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الذى أدان الانقلاب بشدة، وأعلن أن توقيته خطير فى الوقت الذى يجب التركيز فيه على محاربة التطرف الإسلامى، وذلك بالرغم من أن قائد الانقلاب الجديد شاب له شعبية بين النخبة العسكرية الفرنسية لأن بول هنرى دامبيا، أكمل تعليمه فى فرنسا على غرار معظم العسكريين الأفارقة.

وعلى الجانب الاخر، تشير التقديرات إلى إضطلاع روسيا فى دعم هذا الانقلاب العسكرى فى ظل التنافس الروسى الفرنسى فى منطقة الساحل الأفريقى، كما أن الرئيس “كابورى” معروف بدعمه من قبل فرنسا ورفضه الاستعانة بروسيا، وبخاصة قواتها غير النظامية “فاجنر” فى محاربة الجماعات المسلحة، وهو ما كان يعرقل إستراتيجية روسيا فى التوسع فى منطقة الساحل الأفريقى وإنتشار قواتها غير النظامية، خصوصًا عندما بدأت موسكو تقوى علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع القارة، لا سيما عندما فُرضت عقوبات غربية على موسكو فى عام 2014، وقد حمل المتظاهرون الذين خرجوا دعماً للانقلاب العسكرى فى بوركينا فاسو شعارات داعمة لروسيا، وطالبوا بدور أكبر من قبل موسكو لدعم البلاد، وتكرار سيناريو أفريقيا الوسطى ومالى فى بلادهم، وهو ما يؤشر إلى احتمال أن تشهد الفترة المقبلة انخارطاً روسياً كبيراً في بوركينا فاسو فى ظل التراجع الفرنسى.

إخفاق الهيئات الإقليمية فى التعامل مع الانقلابات العسكرية فى الساحل

مع تزايد أعداد الانقلابات العسكرية الواقعة فى غرب أفريقيا، فشلت الهيئات الإقليمية، ولا سيما الاتحاد الافريقى والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا ‘إيكواس’، فى التعامل مع هذه الانقلابات و تحديات سوء الحكم ، وأصبح قرار تعليق العضوية غير مؤثر ، بل وقعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا فى مأزق بعد تعليق عضوية بوركينا فاسو كما فعلت سابقا مع مالى وغينيا كوناكرى بسبب استبعاد ثلاث دول من أصل 15 دولة تشكل المجموعة وهو ما يؤثر على تشكيلها وقوتها، وهناك مؤخرًا اختلاف بين رؤية شعوب دول غرب إفريقيا للأزمات التى تواجه دولها وعلى رأسها الإرهاب، وبين الإستراتيجية التى تنتهجها الإيكواس، خاصة أنها لم تستطع منع الانقلابات وكانت مهمتها الرئيسية معاقبة الأنظمة العسكرية التى أصبحت تلقى دعما من عدد كبير من هذه الشعوب وذلك بدليل المظاهرات المساندة للجيش بعد الانقلابات العسكرية فى كل من مالى وغينيا كوناكرى وبوركينا فاسو، حيث أظهرت نتائج استطلاع حديث أجرته شبكة أفروباروميتر (Afrobarometer) أن هناك نحو 50% من السكان فى بوركينا فاسو يؤيدون الحكم العسكرى، مقابل 31% فى حالة مالى، وهو ما سيعزز من نفوذ السلطات العسكرية الجديدة.

أرشيفية

مستقبل الأوضاع الأمنية فى بوركينا فاسو

شكل الإنقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس روش مارك كابورى ، انتكاسة حقيقة للديمقراطية فى هذا البلد الإفريقى الذى يعيش بين فكى الفقر والحرب الأهلية، خاصة أن الرئيس تم انتخابه لولاية ثانية ومتبقى بها أربع سنوات عطل الانقلاب العسكرى استكمالها، فضلًا عن تنصيب المجلس الدستورى فى بوركينا فاسو بول دامبيا قائد الانقلاب رئيس للجمهورية، وهو ما يعزز المخاوف من أن تصبح الانقلابات نموذجًا للوصول للسلطة دون الاحتكام للانتخابات كالية معترف بها دوليًا وإقليميًا للتداول السلمى للسلطة، وهو الأمر الذى قد يدخل البلاد فى دوامة من عدم الاستقرار الممتد، والتوقعات بحدوث انقلابات عسكرية متكررة الفترة القادمة.

كما أن المستفيد الأكبر من الانقلاب العسكرى فى بوركينا فاسو، هو الجماعات الجهادية فى شمال مالى والتى ظهرت فجأة كقوة صاعدة، خاصة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين والتى تمددت فى بوركينا فاسو فى ظل انتشار تنظيم الدولة الإسلامية داعش بشكل راسخ فى الشمال والشرق، حيث سيتمكن الجهاديون من استغلال حالة الفراغ الأمنى وعدم الاستقرار السياسى، كما سيقوض التعاون الدفاعى تحت ما يسمى قوة الساحل التى تضم قوات من بوركينا فاسو وتشاد ومالى وموريتانيا والنيجر.

وختامًا… استمرار الانقلابات العسكرية وظاهرة كرة الثلج فى منطقة غرب أفريقيا يثير التخوفات من تكرارها، فى باقى الدول التى تعانى من أزمات مشابهة وجماعات إرهابية صاعدة تهدد إستقرارها، وذلك فى ظل فشل أنظمة هذه الدول فى القضاء على هذه الجماعات ، لذلك فأنه يبدو أن النموذج فى مالى وغينيا كوناكرى وبوركينا فاسو مرشح للتكرار فى عدد من دول غرب أفريقيا وعلى رأسهم النيجر التى شهدت بالفعل محاولة انقلابية فاشلة ضد الرئيس محمد بازوم فى مارس 2021، بعد أيام قليلة من توليه السلطة بعد الانتخابات العامة التى شهدتها البلاد، وفى ظل حالة عدم الاستقرار التى تعانى منها النيجر والانقسام داخل المؤسسة العسكرية.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version