الاتفاق النووي الإيراني، المعروف رسميًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، هو اتفاق تاريخي تم التوصل إليه بين إيران والعديد من القوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة، في يوليو 2015.
وبموجب شروطه، وافقت إيران على تفكيك الكثير من مراحل البرنامج النووي وفتح منشآته لمزيد من عمليات التفتيش الدولية المكثفة مقابل تخفيف العقوبات بمليارات الدولارات، وهو الاتفاق الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018، إلا أن الرئيس الديمقراطى الجديد جو بايدن أكد أن الولايات المتحدة ستعود إلى الاتفاق، إذا عادت إيران إلى الامتثال.
ونستعرض في هذا التقرير أبعاد الاتفاق، ومواقف الأطراف المشاركة، مع وضع سيناريوهات محتملة لمستقبل الاتفاق النووي في ظل التحديات الحالية.

1. خلفية الاتفاق
وقّعت إيران ومجموعة “5+1” (التي تضمُّ الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا) _بعد عدة جولات تفاوضية_ اتفاقا مؤقتا في جنيف في الرابع والعشرين من نوفمبر عام 2013 تضمن خطة عمل مشتركة، التزمت خلالها طهران بعدم تخصيب اليورانيوم بدرجة أعلى من نسبة 5%. كما قضت الخطة بأن تُخفّض طهران بشكل كبير وتيرة تطوير برنامجها النووي، وأن تسمح لمراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش مواقعها النووية المحورية، وفي المقابل وافق الغرب على تخفيف العقوبات الاقتصادية جزئيا، والإفراج لإيران عما يقارب 700 مليون دولار شهريا من ودائعها بالبنوك الغربية. ووُصف الاتفاق بأنه خطوة أولى يجب التوصل بعدها لاتفاقية شاملة.
وفي الثاني من أبريل 2015 توصلت طهران والدول الست الكبرى في مدينة لوزان السويسرية إلى “اتفاق إطار” سيقود إلى حل نهائي لملف البرنامج النووي الإيراني، يتوقع أن يتوصل الطرفان إليه بحلول نهاية يونيو 2015. وتبعها الاتفاق على خطة العمل الشاملة المشتركة في 14 يوليو 2015 بين إيران ومجموعة 5+ 1، ودخلت حيز التنفيذ في 16 يناير 2016.
شكل انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العام التالي تحديًا للاتفاق النووي الايراني. حيث كره ترامب الاتفاق النووي الذي وصفه بأنه “أسوأ صفقة تم التفاوض عليها على الإطلاق”. وأعلن ترامب، في الثامن من مايو 2018، عن انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة واعاد فرض عقوبات اقتصادية أمريكية لإجبار قادة إيران على الموافقة على صفقة جديدة، وهو أمر رفضوه، حتى مع دخول الاقتصاد الإيراني في ركود عميق، وصاغ الرئيس قراره على أنه الوفاء بوعد الحملة الانتخابية الأساسي لإلغاء اتفاقية معيبة قاتلة.
صعد ترامب الضغط في مايو 2019 من خلال تطبيق عقوبات ثانوية على الدول التي واصلت التعامل مع إيران. وتدهورت العلاقات أكثر عندما تعرضت ست ناقلات نفط للتخريب في خليج عمان في مايو ويونيو. واتهمت واشنطن إيران بالوقوف وراء هذه الهجمات. ونفت إيران ذلك.
وفي أواخر ديسمبر عام 2019، ألقت الولايات المتحدة باللوم على ميليشيا مدعومة من إيران في هجوم صاروخي قتل متعاقدًا أمريكيًا في شمال العراق. وردت واشنطن بقصف قواعد مرتبطة بالميليشيات في العراق وسوريا، مما أسفر عن مقتل 25 مقاتلاً على الأقل. أثارت هذه التفجيرات رد فعل عنيف في العراق. حيث تعرضت السفارة الأمريكية في العاصمة بغداد لهجوم من قبل حشود من المحتجين. وألقى ترامب باللوم على إيران في تنظيم الهجوم وحذر من أنها “ستدفع ثمناً باهظاً للغاية”.

وفي الثالث من يناير عام 2020، قُتل قاسم سليماني _قائد الحرس الثورى الإيرانى_ في غارة أمريكية بطائرة بدون طيار على مطار بغداد. واعتبر الأمريكيون الجنرال _الذي كان يسيطر على القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران في أنحاء الشرق الأوسط_ إرهابيًا، وزعمت الإدارة الامريكية أنه مسؤول عن مقتل مئات من القوات الأمريكية وكان يخطط لهجمات “وشيكة”.
وفي 8 يناير عام 2020، جاء رد فعل القوات الإيرانية بإطلاق صواريخ باليستية على قاعدة الأسد الجوية وقاعدة جوية قرب إربيل، وكلاهما في العراق، واللتان يتمركز فيهما أفراد أميركيون. كما أعلن الحرس الثوري أن الضربات كانت جزءًا من انتقامهم لمقتل سليماني. ولم ترد تقارير عن سقوط ضحايا عراقيين أو أمريكيين. وقالت إيران بعد يومين إنها تخلت عن الحد الأخير لتخصيب اليورانيوم الذي فرضه الاتفاق النووي.
وتأزم الأمر باغتيال العالم الإيرانى “محسن فخري زاده” في 27 نوفمبر عام 2020، الذي يعتقد أنه يدير البرنامج سري للقنبلة النووية، في كمين نصبته مجموعة مسلحة استهدفت موكبه بالقرب من طهران. مما أسهم في تعقيد مهمه الرئيس الأمريكي الجديد في حل الأزمة مع إيران. حيث تم تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن في 20 يناير عام 2021.
2. التحركات الحالية
• التحركات في الجانب الإيراني
تشهد طهران حالة من المواجهة المحتدمة بين التيارات السياسية المختلفة فيما يتعلق بمستقبل الاتفاق النووي، فهناك تيارَين سياسييَّن رئيسيين داخل إيران، هما المحافظين والإصلاحيين، ولكل منهما وجه نظر وفقا للأيديولوجية الخاصة به في التعامل مع الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة: فالأول، أصولي محافظ، يعادي الغرب، والولايات المتحدة؛ والثاني، يتألف من اليمين المعتدل، واليسار المعتدل، ويطلق عليه التيار الإصلاحي الليبرالي.

موقف الإصلاحيين
تعد الحركة الإصلاحية لاعباً رئيسياً في السياسة الإيرانية، فقد صعدت بعد فوز الرئيس الحالى “حسن روحاني” بالانتخابات الرئاسية في عام 2013، وسعت لعقد الاتفاق النووي مع القوى العالمية في إبريل عام 2015، وعليه بدأت طهران في تلقي عوائد هذا الاتفاق التي تمثلت في انجذاب الشركات الأجنبية إلى السوق الإيراني الغنى بالمشروعات الاستثمارية والمجالات الجديرة بالمنافسة، خاصة قطاع الطاقة الإيراني الجاذب لعدد كبير من الشركات الأمريكية والأوروبية(1).
نتيجة لما سبق، استقطبت طهران بعد تنفيذ الاتفاق النووي نحو 12 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية؛ حيث صعدت ألمانيا باستثمارها إلى نحو 3.962 مليارات دولار في المرتبة الأولى بين الدول المستثمرة في ذلك الوقت. وشهد الاقتصاد الايراني انفتاحاً كبيراً على العالم مع بداية دخول خطة العمل المشتركة الشاملة حيز التنفيذ؛ حيث سجلت لجنة الاستثمارات الأجنبية في الأشهر الأولى بعد الاتفاق استقطاب نحو 9.176 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية إلى داخل البلاد، أما في نهاية عام 2017 بلغت الاستثمارات الاجنبية ما يصل الي 12.49 مليار دولار(2).
وعليه، تعول الحركة الإصلاحية في طهران على عودة الولايات المتحدة الامريكية للاتفاق النووي لجذب الاستثمارات الأجنبية مرة أخرى وخروج قطاعات الاقتصاد الإيراني من حالة التدهور الموجود عليها، فضلاً عن أنهم يعرفوا جيداً أنه لا فائدة من تحدى القوى الدولية والدخول في مرحلة التهديدات المتصاعدة مع الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ناحية أخرى، يحاول الإصلاحيون الاندماج بكل الطرق الممكنة في النظام العالمي، بما يحسن وضع مواطني الجمهورية الإسلامية في كثير من الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الشخصية، ومن ثم الانفتاح على العالم سياسياً واقتصادياً.
تتلخص أولوية إيران الحالية في العودة إلى الوضع قبل ترامب. حيث تريد طهران من واشنطن إلغاء جميع العقوبات الجديدة التي فرضتها الإدارة السابقة، بما في ذلك تلك التي تمنع مبيعات النفط الإيراني والوصول إلى النظام المالي الدولي. لكن قبل التفاوض، تريد واشنطن إثباتًا يمكن التحقق منه على عودة طهران للامتثال لمبادئ اتفاق 2015، الأمر الذي يتطلب منها التراجع عن أنشطة التخصيب وغيرها من الأنشطة النووية المحظورة التي قامت بها منذ مايو 2019.
تدرك الحكومة الإيرانية الحالية أنه يجب عليها تعزيز الاقتصاد، لكنها تتعرض أيضًا لضغوط سياسية هائلة للوقوف في وجه الولايات المتحدة. تزايد الضغط الاقتصادي الأمريكي ومقتل الجنرال قاسم سليماني، القائد الأعلى لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في يناير 2020، وكذلك الاغتيال الأخير للعالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، على أيدي عملاء إسرائيليين، حسبما ورد. عزز فقط المتشددين بين القيادة الإيرانية، ودفع الأصوات المعتدلة الداعية للدبلوماسية إلي الهامش.

موقف المحافظين
يتربع الحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى “على خامنئي” وبعض الشخصيات المقربة منه على عرش الحركة المحافظة داخل الجمهورية “الإسلامية”؛ حيث يعد التواصل بين الحاضر والماضي أبرز سمات التيار المحافظ داخل إيران، الذي تنطلق أبرز معتقداته من أن الدين هو المحور الأساسي الذي يجب أن تقام عليه الحياة الإنسانية، وتطبيق تعاليم الدين في حدها الأعلى مع ضرورة رعايتها من قبل الحكومة، كما يتم توليد الشرعية السياسية من رئاسة الولي الفقيه، باعتبارها أداة الوصل مع الإمامة.
ويعول المحافظون على حكومة روحاني كثيراً في فشل الاتفاق النووي وسياستها المتساهلة مع الدول الأوروبية، وتنازلها عن كثير من حقوق الجمهورية الإسلامية؛ حيث يحاول المحافظون امتلاك أكبر قدر من القوة والنفوذ داخل طهران، بغرض الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
كما توجد نقطة أخرى غاية في الأهمية تتمثل في رغبة التيار المحافظ داخل إيران _خاصة الحرس الثوري_ في الحفاظ على دور طهران الإقليمي، المتمثل في النفوذ الكبير داخل عدد لا بأس به من الدول العربية “سوريا، العراق، لبنان، اليمن”، وهو الأمر الذي تحاول الإدارة الأمريكية القضاء عليه، على خلفية رغبتها في حماية مصالحها ومصالح حلفاءها في الشرق الأوسط “إسرائيل، دول الخليج”(3).

• التحركات في الجانب الأمريكي
هناك عدداً من كبار معاوني الرئيس بايدن _الذي كان نائبا لأوباما_ في مجال السياسة الخارجية لهم خبرة مباشرة بشأن موضوع إيران. فخمسة منهم كان لهم دور أساسي في المفاوضات التي أدَّت إلى إبرام الاتفاق النووي عام 2015، وهم وزير الخارجية أنتوني بلينكين، ومستشار الرئيس للأمن القومي جيك ساليفان، ورئيس وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، ومبعوث الرئيس الخاص للشرق الأوسط بريت ماكجورك، والمبعوث الأمريكي الجديد الخاص بإيران روبرت مالي.
وقال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، إنه إذا عادت إيران للالتزام بالاتفاق، فستسعى واشنطن لبناء «اتفاق أطول وأقوى»، يتناول مسائل أخرى «صعبة للغاية»، وتشمل تطوير طهران صواريخ باليستية، ودعمها قوات تعمل بالوكالة في العراق وسوريا ولبنان واليمن(4).
يبدو أن إدارة بايدن تحاول رسم مسارها الخاص بين سياسات ترامب وأوباما. إنها مستعدة للتخلي عن حملة الضغط الأقصى التي شنها السيد ترامب ضد طهران، لكنها فى الوقت ذاته، تريد اتفاقية نووية “أقوى وأطول”، ومزيدًا من القيود على عدوان إيران الإقليمي أكثر من أي شيء تمكنت إدارة أوباما من إنتاجه. إنها تريد مسافة أكبر مما حافظت عليه إدارة ترامب بين أمريكا والسعودية وحكومة نتنياهو في إسرائيل، لكنها تأمل في تجنب المعارضة المريرة التي أثارها نهج أوباما تجاه إيران من الحلفاء الإقليميين الرئيسيين(5).
في الخامس والعشرين من فبراير 2021، أمر بايدن بضربات جوية على منشآت تابعة لفصائل مدعومة من إيران في شرق سوريا قرب الحدود مع العراق، ردا على هجمات صاروخية على أهداف أمريكية بالعراق. ورفض المتحدث باسم البنتاجون، جون كيربي، ربطها بأي أنشطة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران. إذ قال: «هذا لا علاقة له بأي جهود دبلوماسية قد تحدث أو لا تحدث … يتعلق الأمر بمحاولة التأكد من أننا نحكم على ما جرى بطريقة صحيحة»(6).
• موقف الأطراف الفاعلة
موقف الدول الأوروبية
وافق النظام الإيراني على إجراء محادثات فنية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن أسئلة حول برنامجها النووي، مما خفف من حدة المواجهة بين الأطراف الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني وطهران.
قرّر الأوروبيون التخلي عن طرح مشروع قرار ينتقد إيران على مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك في مسعى لاستمالة طهران للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة، ولقي القرار ترحيبا إيرانيا. وصرح مصدر دبلوماسي فرنسي في الرابع من مارس عام 2021، أن إيران أعطت إشارات مشجعة في الأيام الأخيرة بشأن بدء محادثات غير رسمية مع القوى الكبرى والولايات المتحدة بعد أن ألغت القوى الأوروبية خططا لإدانة طهران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية. مع رفض إيران، حتى الآن، المشاركة في محادثات غير رسمية مع القوى العالمية والولايات المتحدة بشأن إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015.

موقف إسرائيل
التوتر الإيراني الأمريكي في المنطقة يضاف إليه المزيد من التوتر بين إسرائيل وإيران. فقد اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إيران بالوقوف وراءَ الهجوم الذي استهدف سفينةً إسرائيلية في مياه خليج عمان. نفت طهران الادعاء الإسرائيلي، ووضحت أنها تراقب عن كثب تصرفات إسرائيل وسترد إذا لزم الأمر.
وبالرغم من النفي الإيراني، قامت إسرائيل باتخاذ خطوة ضد إيران، حيث بعث سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة “جلعاد أردان” بمذكرة شكوى رسمية إلى مجلس الأمن وإلى الأمين العام للأمم المتحدة “جوتيريش” يحمل فيها إيران مسؤولية الهجوم الذي تعرضت له السفينة الإسرائيلية في مياه الخليج. ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل تنوي أن يكون لها دور في المحادثات القادمة بشأن مستقبل الاتفاق النووي بما يراعي مصالحها وأمنها.
