لفت انتباه المراقبين دخول كبرى الغواصات الأمريكية “يو اس جورجيا” التي تعمل بالطاقة النووية، والمحملة بأكثر من 154 صاروخا من طراز توماهوك، في نطاق عمليات الأسطول الخامس بمياه الخليج العربي، فوضع بعضهم جملة من التصورات حول المغزى من وراء ذلك، منها أنه ربما يأتي ضمن محاولات استدراج إيران للوقوع في خطأ استراتيجي؛ يقتضى معاقبتها عقابا يفضي إلى الإطاحة بنظامها.
إيران
محسن فخرى زاده – صورة أرشيفية
قياسا على ما حدث لنظام صدام حسين، عام 2003م، وذلك استنادا إلى التوقيت خاصة أنه جاء:
 متزامنا مع توجيه اتهامات أمريكية لإيران بالوقوف وراء الهجوم الصاروخي الأخير على المنطقة الخضراء في بغداد، بالقرب من السفارة الأمريكية.
 بعد مرور أشهر عدة على فرض الرئيس الأمريكي السابق ترامب، عقوبات قصوى عليها، عقب انسحابه من الاتفاق النووي.
 متزامنا مع تعرضها لعمليات نوعية مؤثرة؛ نالت من أمنها الداخلي وهيبتها الإقليمية وكشفت مدى عجزها عن اتخاذ رد الفعل. بدءا من اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، مطلع يناير 2020م، ثم انفجار بمنشأة بارشين العسكري في نهاية يونيو، أعقبها انفجار آخر، مطلع يوليو، دمر جانبا مهما من منشأة نطنز النووية.
وصولا إلى اغتيال كبير مهندسي البرنامج النووي محسن فخري زاده يوم 27 نوفمبر من نفس العام، ناهيك عن تنفيذ عمليات محددة استهدفت مناطق تمركز عناصرها من الحرس الثوري، والمليشيات التابعة لها بالأراضي العراقية والسورية، في توقيتات مختلفة.
 تراجع وزن إيران النسبي بمنطقة القوقاز؛ بفضل انتصار أذربيجان في المعارك التي دارت مع أرمينيا حول مرتفعا قره باغ، 27/9 ـ 10/11/2020م، في مقابل زيادة الوزن النسبي لتركيا (المنافس) وتعزيز دور إسرائيل (العدو) خصما من نفوذ إيران ودورها في تلك المنطقة.
 اكتساب إسرائيل صفة الوجود الرسمي على السواحل المقابلة لإيران؛ من خلال عمليات التطبيع مع دول الخليج، ضمن عملية تطويق النفوذ الإيراني على المستوى الإقليمي.
هل تتوفر الآن المعطيات الكافية للإطاحة بالنظام؟
وهنا يطرح التساؤل الأول نفسه: هل تتوفر الآن المعطيات الكافية للإطاحة بالنظام والدولة الإيرانية معا قياسا على ما حدث لنظام صدام حسين بالعراق؛ لمجرد وجود تشابه نسبي بين وضع إيران الراهن ووضع العراق قبيل تدميره؟ من حيث:
 الإرهاق الذي يعاني منه النظام الإيراني؛ جراء العقوبات المتتالية عليه، منذ عام 1979م، وحتى مطلع العام الجاري 2021م.
 توفر مبررات الاستهداف الخارجي، ممثلا في امتلاكها قدرات صاروخية مهددة للمصالح الأمريكية ولشركائها الإقليميين.
 تعمق الشكوك الأممية والدولية حيال سلمية نواياها فيما يتعلق ببرنامجها نووية.
 ازدياد مشاعر الكراهية تجاه النظام الإيراني وتوجهاته في داخل البيئة الإقليمية المحيطة به.
 تحفز بعض دول الخليج العربية لدفع إيران نحو الهاوية، مقابل دفع التكاليف المالية؛ بسبب شعورها بخطورة توجهاتها.
 التربص المتبادل، بغض النظر عن الأبعاد، بين طهران التي لم تكف يوما عن وعيدها لإسرائيل بالفناء (هدف أيديولوجي) وبين تل أبيب التي لم تكف عن النيل من أمن إيران حتى تدمير برنامجها النووي (هدف حيوي).
على خامنئى – أرشيفية
والإجابة عن التساؤل سالف الذكر، ترجح النفي في الوقت الراهن على الأقل؛ وذلك نظرا لأسباب عدة، منها:
1. أن مرور مدة طويلة على انطلاق الإستراتيجية الأمريكية للإطاحة بنظام صدام حسين وتدمير العراق، قد منح الجميع، وعلى رأسهم إيران، ميزة التبصر فيما حدث واستخلاص الدروس المستفادة منه.
2. عدم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية صراحة، منذ قيام الثورة الإسلامية، عام 1979م، وحتى اليوم، إلا عن رغبتها الأكيدة في تعديل سلوكيات النظام الإيراني على المستوى الإقليمي، وليس الإطاحة به.
3. إدراك النظام الإيراني، في المقابل، لحسابات التوازن في إدارة الخلاف والاختلاف مع الدولة القطب في العالم وحلفائها، وذلك على العكس تماما مما اقترفه النظام العراقي.
4. حرص طهران وواشنطن، في ظل حسابات كل منهما، على عدم الدفع باتجاه الصدام المباشر. وبالتالي لم يخرج الأمر بينهما عن إرسال رسائل تحذير أو إدانة أمريكية باتجاه طهران، أو أخرى لطمأنه شركائها الإقليميين حيال رسائل التهديد التي تنطلق بين حين وآخر من طهران أو عبر أذرعها الإقليميين، لهؤلاء الشركاء.
5. لا تعاني إيران، حتى هذه اللحظة، من انكشاف استراتيجي على غرار ما حدث للعراق؛ نظرا لما تتميز به من قدرات شاملة، وتمتعها بمكانة مهمة في استراتيجيات الدول الكبرى سواء روسيا أو الصين أو الهند أو اليابان، أو حتى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أنفسهم.
6. التمايز الجيوسياسي بين إيران ذات المساحة الشاسعة (1,648,195كم) وبين العراق ذي المساحة الجغرافية المحدودة نسبيا مقارنة بها (437,072كم). فضلا عن تفوقها النسبي في توازن القوى على الدول المتاخمة لها، بما فيها العراق، الذي طالما تتربصت إيران بحدوده الشرقية، حتى نجحت في اختراقه أمنيا، ومن ثم المشاركة أو التآمر على تمزيقه بوصفه عدوها التاريخي. بل واتخاذه محور ارتكاز لتمدد نفوذها الإقليمي.
7. نجاح إيران في بناء سياج طائفي محيط بحدودها من جميع الاتجاهات الإستراتيجية، الأمر الذي يعزز حمايتها من الخارج.
8. تحكم إيران في ممرات الطاقة والملاحة البحرية من خلال 6 جزر إستراتيجية في الخليج، أهمها جزيرتي هرمز ولارك في ظل عدم وجود خطوط أنابيب بديلة لنقل الطاقة من مصادرها بمنطقة الخليج. على الرغم من نجاح الولايات المتحدة في تحييد النفط والغاز الإيراني من دائرة التأثير على أسواق الطاقة العالمية.
9. امتلاك إيران لقوات الحرس الثوري، بوصفها كيان محمل بالأيديولوجية ومدرب تدريبا نوعيا على حماية نظام الولي الفقيه، وحراسة الثورة، وصيانة كيان الدولة من التهديدات الخارجية.
وبناء عليه، يمكن القول إن السيناريو الأقرب للتحقق سيتمثل في مواصلة الضغوط القصوى على إيران؛ لتحقيق الأهداف المعلنة منها، والمتمثلة في كبح نفوذها الإقليمي، مع الاحتفاظ لها بدور إقليمي في ظل التغير الهيكلي للأثقال الإقليمية بفعل عمليات التطبيع الخليجي الإسرائيلي.
فضلا عن إجبارها على التوصل إلى تسوية متكاملة بشأن برنامجها الصاروخي والنووي. خاصة أن ثمة اتفاق ضمني بينها وبين الولايات المتحدة على تسوية القضايا الخلافية بينهما.
إحدى التظاهرات المناهضة للنظام الإيرانى – أرشيفية
دائرة الاستهداف المدمر
وهنا يطرح التساؤل الثاني نفسه: ماذا لو افترضنا أن المفاوضات مع النظام الإيراني وصلت إلى طريق مسدود؟ حتى بات دفعها إلى دائرة الاستهداف المدمر أمرا ضروريا؟
من المرجح في هذه الحالة، ألا تعمد الولايات المتحدة إلى تدمير إيران مباشرة على غرار ما اقترفته بحق العراق، بقدر الحرص على إدخالها في دائرة الفوضى المحسوبة التي تفضي في النهاية إلى إسقاط النظام، دون أن تُحدث فراغا داخليا؛ نظرا لما ينطوي ذلك على تداعيات محتملة على مصالح القوى الكبرى بالمنطقة، خاصة روسيا، التي إذا أخذنا في اعتبارنا أبعاد خريطتها الإستراتيجية فسنجد أن سوريا، نسقها الأول، لا تزال مهددة.
بينما إيران تمثل عمقها التعبوي؛ الذي لن تسمح باختراقه أو الاقتراب منه؛ نظرا لأن أي تهديد لها سيمثل تعرضا مباشرا للعمق الاستراتيجي الروسي. ناهيك عن تهديد استقرار الجوار الإيراني الآخر، خاصة دول الخليج وتركيا وباكستان، فضلا عن تصاعد العمليات الإرهابية في كل من العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان.
وربما تستند هذه الفوضى المحسوبة إلى نقاط الضعف الكثيرة التي يعاني منها النظام الإيراني، في الوقت الراهن، أهمها أزمته السياسية المتعلقة بعدم قدرته على بناء مفهوم متكامل للدولة الوطنية يحظى بتوافق وطني عام. إلى جانب أزمته البنيوية المتعلقة بعدم قدرته على حل معضلة الاثنية العرقية المتجذرة في المكون السكاني للدولة.
 أما فيما يتعلق بأزمة مفهوم الدولة الوطنية، فتنبع من عدم قدرة النظام الحالي على بناء الـ “أمة” نظرا لأنه جمع بين سلطتين، تحمل كل منهما تفسيرا متناقضا مع الآخر، فسلطته الدينية ذات القراءة الشيعية المغلقة، تتناقض جوهريا مع سلطته السياسية ذات البعد الحداثي المنفتح. الأمر الذي جعله يحول الدين إلى أيديولوجية يدير من خلالها صراعاته الداخلية والخارجية على حد سواء.
وفي ظل هذا التفسير المتناقض، برز تناقض صارخ بين مفهوم الدولة الوطنية، والدولة الحصرية القائمة على ولاية فقهاء المؤسسة الدينية على مكونات الدولة وهياكلها المختلفة. الأمر الذي خلق فراغات كبيرة داخل المجتمع، من حيث عدم وجود إجماع وطني شامل حول صلاحيات هذه الولاية المذهبية أو طبيعة تلك الوصاية الدينية. لا سيما أن نظام الجمهورية الإسلامية لم يسمح بوجود ممارسة حزبية بالمفهوم المتعارف عليه. وهو الأمر الذي يشكل حالة الانسداد السياسي داخل الدائرة المؤيدة للنظام في الداخل، ومن ثم أخذت تلف حول نفسها في دائرة مفرغة قوامها الاعتدال والتشدد.
فضلا عن الصراع الوجودي المتزايد مع الدائرة المعارضة لهذا النظام في الخارج، الذي تمثله منظمة مجاهدي خلق الليبرالية ذات التوجه الإسلامي، وحزب كومالا الكردي ذو التوجه الماركسي.
 وفيما يتعلق بمسألة الاثنية العرقية، فهي تمثل بدورها معضلة مزمنة للنظام؛ بسبب تغذيته الدائمة للعنصرية الفارسية تجاه العرقيات الأخرى في المجتمع، إلى جانب عدم قدرته على إحداث تنمية حقيقية بالمناطق التي تقطنها هذه العرقيات على أطراف الدولة، ومن ثم تحولت إلى جغرافية رخوة، يعلوا فيها الانتماء العرقي فوق الانتماء الوطني.
سواء في المناطق الواقعة شمال غرب إيران ذات الأغلبية الأذرية وصاحبة التاريخ المتراكم من محاولات التمرد والاستقلال عن الدولة، وتقع حاليا تحت تأثير الدعايات التركية القومية للانفصال عن إيران؛ لتكوين جمهورية أذربيجان الكبرى.
أو بالمناطق الغربية التي يقطنها الأكراد، الذين لهم محاولات سابقة لنيل الحكم الذاتي. فضلا عن المناطق الجنوبية التي يقطنها العرب في إقليم الأهواز الغني بالنفط، والمناطق الواقعة جنوب شرق البلاد ذات الأغلبية البلوشية المهمشة. وبالتالي سيكون من السهل تهديد بنية الدولة الإيرانية عبر دفع هذا المكون العرقي المتحفز إلى التمرد للحصول على حكم ذاتي يضمن له حقوقه المهدرة.
حسن روحانى – صورة أرشيفية
الخلاصة
وبناء عليه، يمكن القول إن دفع إيران لدائرة الفوضى المحسوبة سوف ينطلق بشكل أساسي من نقطتي ضعفه السياسي والعرقي، والتي ستفضي بدورها إلى بروز تصورين لإنهاء هذه الفوضى وإقامة نظام بديل. التصور الأول يقوم على توافق وطني حول إقامة نظام فيدرالي ووضع دستور يضمن للأقليات العرقية والدينية حقوقها في الدولة. والثاني هو الاتفاق على إجراء انتخابات عامة حول طبيعة النظام البديل لنظام ولاية الفقيه. ولتحقيق ذلك سيتعين على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها العمل على:
 مواصلة فرض العقوبات القصوى على النظام الإيراني، ومؤسساته ورموزه الداعمة للإرهاب في العالم.
 تسخين الأجواء الداخلية، وتصعيد التوتر السياسي بما يضع الجماهير في دائرة المواجهة المباشرة مع النظام، حتى إسقاطه.
 استهداف هيبة النظام الإيراني بالكشف عن حجم إخفاقاته الاقتصادية، ووحشية أجهزته الأمنية، وفساد قياداته ورموزه.
 بناء صورة ذهنية وحشية للنظام الإيراني قائمة انتهاكه لحقوق الأقليات العرقية والدينية.
 التعجيل بمد خطوط أنابيب نقل النفط والغاز من منطقة الخليج العربي إلى سواحل البحرين الأحمر والمتوسط.
 تعزيز التواجد العسكري بالاتجاهات الإستراتيجية الإيرانية، خاصة بمنطقة الخليج العربي والعراق.
 الاستهداف المستمر للمليشيات الشيعية والعناصر الإرهابية التابعة لإيران والموالية لها في المنطقة.
 تحييد عملائها وخلاياها النائمة في بعض الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية.
 مواصلة تصفية العناصر والكوادر الفاعلة في البرنامجين النووي والصاروخي، داخل المجتمع الإيراني بما يفقده الثقة في قدراته.
 مواصلة الحرب السيبرانية وإطلاق الهجمات الاليكترونية المدمرة لنظم المعلومات، والمعيقة لأنظمة التخصيب بالبرنامج النووي.
 تنفيذ عمليات نوعية تستهدف المخزونات الإستراتيجية الإيرانية من الصواريخ والأسلحة والمعدات والمنشآت العسكرية المؤثرة.
 حماية المنشآت والمناطق التي يتوقع أن تتعرض لهجمات انتقامية إيرانية أو لعمليات إرهابية.
 إعداد كيانات سياسية وطنية بديلة تحظى بالتوافق والإجماع الوطني وتجيد مداعبة مشاعر الجماهير بالحرية والرفاهية. والتي من المرجح أن تكون منتقاة من بين الجاليات الإيرانية الكبيرة التي تعيش على الأراضي الألمانية أو الفرنسية أو الأمريكية، على غرار العمليات التي تمت بشأن إعداد عناصر الثورة الإسلامية 1979م، الذين كان معظمهم يقيم بالولايات المتحدة وفرنسا، وعادوا فاتحين لإيران على متن الخطوط الجوية الفرنسية يؤمهم آية الله خميني زعيم الثورة المنتظر ومؤسس الجمهورية الإسلامية.
 توفير وسائل اتصال وتواصل بديلة في حال قطع السلطات الإيرانية الانترنت عن المناطق التي سوف تشهد التصعيد
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version