يتفق الكثير من الخبراء والمحللين في إسرائيل وخارجها على أن حرب أكتوبر عام 1973م صدمت الإسرائيليين صدمة كبيرة، ليس لهذا حُفرت ذكراها في ذاكرتهم الجمعية، وشكلت جرحا لم ولن يندمل في المستقبل القريب، وإذا اندمل هذا الجرح ستظل ندوبه واضحة وبارزة في الوعي والذاكرة والجسد. كما سببت إحباطا وخيبة أمل كبيرة، بعدما انتقل المجتمع الإسرائيلي من حالة الزهو والغرور والغطرسة في حرب عام 1967م إلى حالة من الإنكسار والضياع والثكل واليتم والترمل، بعدما فقد الجيش الإسرائيلي مايزيد عن 2700 عسكريا، وهو عدد كبير غير مسبوق في الحروب السابقة.

كانت الفنون والآداب، بمختلف اشكالها وأجناسها، ترصد هذه التحولات في الوعي الجمعي والمجتمع الإسرائيليين، خاصة في الفترة التي اعقبت اندلاع الحرب مباشرة، التي وجهت صفعة قوية أسقطت أقنعة الشجاعة والبطولة الزائفة التي روجت لها في حروب سابقة، لتظهر هشاشة الشخصية الإسرائيلية وسطحيتها.

فقد كشفت هذه الحرب فور اندلاعها عن أن الإسرائيلي يجب أن يبكي ويحزن ويعترض وينتقد، بعدما كان في السابق متوافقا تماما مع قياداته ومؤسساته العسكرية والسياسية، سعيدا بإنجازاتها، راضيا بما تحققه.

أسرى إسرائيليين

فعلى مستوى القوى الناعمة الكاشفة والعاكسة لمايحدث في الوعي الجمعي انتشرت في هذه الفترة أغنية “الحنطة تنمو ثانية (هحيطا تسوماحات شوف)”، والتي انتشرت أكثر عام 1974م، للكاتبة دوريت تساميريت، بعدما فقد كيبوتس “بيت هشيتا” التي تقيم فيه أحد عشر عسكريا من أبنائه في الحرب، وجاءت فيها بعض العبارات التي تعبر عما شهده ويشهده هذا المجتمع من تحولات جوهرية تنطوي على الفقد والحزن والثكل واليتم والترمل: “ليس هذا الوادي نفسه، وليس هذا البيت نفسه .. فماكان لن يعود، ومن رحل لن يعود”.  وجاء فيها أيضا: “انتم لستم أنتم، ولن يكون بمقدوركم العودة .. ولكن الحنطة ستنمو من جديد”. هكذا تغير كل شيء، والإدعاءات والمزاعم السابقة لن تتكرر والراحلون لن يعودوا[1].

كما نشر الكاتب أرنون لابيد (1948م-     )، الذي شارك في هذه الحرب، مقالا عاكسا لهذا التحول عنونه بـ”دعوة للبكاء (هزمانا لبيخي)”[2]، جاء فيها: “أريد أن أرسل لكم دعوة للبكاء. اليوم والساعة ليس مهمين، ولكن برنامج الأمسية سيكون مليئا بالفقرات: بكاء. سأبكي على موتاي. وسأبكي على أفراهام، ودودو ويائير، وأميتاي، وعوزي وبيني، وأنتم تبكون على موتاكم. نبكي على الثكالي الجدد والأرامل الجدد. نبكي على اليتامي الجدد، على الصداقات القوية التي فقدناها، على الأوهام الجميلة التي تبددت، على الحقائق التي ظهرت كأكاذيب، على الحزن، الذي يحلّق كالسحب على اية فرحة في المستقبل. ونترحم على أنفسنا، لأننا نستحق الرحمة”.

أحدثت هذه المقالة ردود فعل واسعة النطاق في المجتمع الإسرائيلي، تراوحت بين الرغبة في الخروج من الروح الجماعية التي كانت سائدة ومسيطرة على المجتمع ومناحي الحياة، إلى الفردية، وبين الإنهزامية والاستسلام والإحباط وخيبة الأمل. تم تلحين هذه الكلمات، وقدمت في شكل غنائي، وكلما كانت تؤدى على المسارح كانت دموع الآباء الثكالي والسيدات الأرامل والأبناء اليتامي تنهمر متأثرة بما فيها.

وتناولت الفنون والآداب مظاهر متعددة للصدمة التي أحدثتها هذه الحرب، وكان الشعر سباقا لأنه أسرع الأجناس الأدبية تفاعلا وانفعالا بالحدث، فكتب الشاعر “آفوت يشورون” (1904م-1992م) قصيدة بعنوان “انفتح الباب فجأة” (بلوتسيم نفتحا ديليت) يتحدث فيها عن الاستدعاء العاجل لفرد احتياط يرتدي شال الصلاة (طاليت) من الكنيس وهو يؤدي صلاته. وكتب يوئاف فورات قصيدته “الجريح الأول” (إيت هباتسوع هاريشون) يتحدث فيها عن ممرض في ساحة المعركة يجد صعوبة كبيرة في استيعاب الخسائر البشرية التي تكبدتها قوات الجيش الإسرائيلي، والتي تراها عيناه في المعركة.

ويفسر البعض هذه الروح الاستسلامية بأن الخسائر الفادحة التي مني بها الجيش الإسرائيلي، وغير المسبوقة في حروبها السابقة، لم يكن من السهل إخفائها أو كبتها على المستوى الشخصي أو الجمعي، وصار البعض يقول “سنتحدث عن كل شيء، بما في ذلك المشاعر والأحاسيس والمشاكل”.

أسرى إسرائيليين

أخذت التحولات التي أحدثتها حرب أكتوبر في البنية الاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي ثلاثة مظاهر رئيسة، الأول هو بروز الدور النسائي على أكثر من مستوى، والثاني سطوع نجم اليهود الشرقيين، والثالث تعالي اصوات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي. هذه المظاهر الثلاثة كانت المؤسسة السياسية والعسكرية تكبتها وتهمشها بدعوى الحفاظ على ماتسميه “الإجماع الوطني”، في ظل الإدعاءات التي تروج لها مؤسسات الدولة بأنها تواجه مخاطر خارجية تتطلب دائما التوحد وعدم الاعتراض والاحتجاج وإظهار الشجاعة والقوة دائما.

كان المظهر الأبرز لحرب أكتور تصاعد الصوت النسائي، وبروز دور المرأة الاجتماعي، بعدما شارك عدد كبير من الرجال في الحرب، فمات بعضهم وجرح البعض الآخر، فأصبحت العملية الاقتصادية بدون رجال تقريبا، وبرزت الحاجة إلى دمج المرأة في العملية الإنتاجية، وتشكلت لجان لتحقيق هذا الغرض. وفي ضوء عدد الوفيات والإصابات في الحرب نظم الجيش الإسرائيلي دورات للمجندات كانت لاتتاح لهن في السابق، وكان دورهن قاصرا على مطابخ الوحدات والقيادات لتقديم الشاي والقهوة.

وفي السياق ذاته نشط الأدب النسائي، بمختلف أجناسه، وبرزت على السطح مجموعة من الشاعرات والقصاصات، فشكلوا ظاهرة تستحق الوقوف امامها بعدما كانوا على هامش العملية الإبداعية. نذكر منهن داليا رابيكوفيتش (1936م-2005م)، وراحيل شابيرا (1945م-     ) .

أما المظهر الثاني لهذه التحولات هو بروز دور اليهود الشرقيين على مسرح الحياة الإسرائيلي بكافة أشكاله، فأصبح لهم دور كبير في الحياة الحزبية والسياسية، بعدما شكلوا مجموعة من الحركات الاحتجاجية التي تعمل على تحسين أوضاعهم وتحقق المساواة لهم. فبرزت أسماء عديدة منها: سامي شالوم شتريت (1960م-     ). أما المظهر الثالث فتمثل في الاحتجاج السياسي الذي برز في ترك حزب العمل سدة الحكم في انتخابات عام 1977م، احتجاجا على سياساته التي أدت إلى هذه الصدمة، ليعتلي حزب الليكود سدة الحكم


[1] דורית צמרת, אז מה אם החיטה צומחת שוב, הארץ 14-5-2019.

[2] ארנון לפיד, “הזמנה לבכי”, שדמות נג (ינואר 1974), עמ’ 51-50

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version