عبدالله فارس القزاز .. باحث فى الشأن الإفريقى
تُعد الأزمة الليبية من أكثر الملفات تعقيدًا في مرحلة ما بعد “الربيع العربي”، إذ تحولت ليبيا من نموذج كان يُعوَّل عليه للانتقال الديمقراطي، إلى ساحة مفتوحة للصراع، تتشابك فيها الاعتبارات السياسية والمؤسسية والأمنية مع أدوار إقليمية ودولية متضاربة، فمنذ إسقاط نظام القذافي عام 2011، دخلت البلاد في مرحلة انتقالية بلا مسار واضح، تصاعدت خلالها الانقسامات، وظهرت اختلالات بنيوية أعاقت بناء دولة موحدة قادرة على فرض الاستقرار. سياسيًا، تعمق الانقسام منذ عام 2014، وخرج من إطار التنافس بين حكومتين إلى صراع طويل على الشرعية، أفرز سلطتين متوازيتين، وأطلق سباق نفوذ بين قوى محلية مدعومة من أطراف إقليمية ودولية. وعلى الرغم من توقيع اتفاق الصخيرات وتعدد المحاولات الأممية، لم يُحقق أي مسار تقدّمًا حقيقيًا، في ظل انعدام الثقة وتراجع الإرادة السياسية. أمنيًا، شهدت طرابلس ومدن الغرب الليبي تحولات خطيرة، بعدما أصبحت خريطة النفوذ مرهونة بتوازن هش بين مجموعات مسلحة، استغلت ضعف مؤسسات الدولة وتعدد المرجعيات. وجاء مقتل عبد الغني الككلي “غنيوة” في مايو 2025 ليكشف عمق الأزمة الأمنية، ويعيد ترتيب موازين القوى داخل العاصمة، في ظل غياب سلطة مركزية قادرة على بسط السيطرة أو إدارة الصراع.
mostbet mostbet giriş mostbet mostbet girişهذا الواقع لم ينفصل عن التفاعلات الخارجية، بل كان انعكاسًا لها. فقد انخرطت قوى إقليمية مثل الإمارات وتركيا ومصر، ودولية مثل روسيا والولايات المتحدة، في دعم حلفائها داخل ليبيا، وتحولت البلاد إلى ساحة تنافس مفتوحة، تداخلت فيها مصالح أمن المتوسط، والطاقة، والهجرة، ومكافحة الإرهاب. تداخل هذه العوامل يجعل من الأزمة الليبية حالة مركبة لا يمكن تحليلها أو التعامل معها من زاوية واحدة. فالملف الليبي لا ينفصل إلى مسارات منفصلة، بل يشكل وحدة واحدة يتقاطع فيها السياسي مع الأمني، ويتداخل فيها الداخل مع الخارج، ما يجعل فهم طبيعة الانقسام، و تموضعات القوى المسلحة، وخريطة التدخلات الخارجية، شرطًا أساسيًا لاستشراف أي مسار نحو التهدئة أو الانفجار.
أولاً: الانقسام السياسي والمؤسسي
منذ عام 2014، دخلت ليبيا في حالة انقسام مؤسسي عميق، تجاوز مجرد التنافس بين حكومتين، ليتحول إلى صراع شامل على الشرعية، أعاق بناء الدولة ومزق وحدة المؤسسات ، فبعد انتخابات يونيو من ذلك العام، نشأ خلاف حاد بين مجلس النواب المنتخب والمتمركز في طبرق بدعم من القيادة العامة للجيش بقيادة المشير/ خليفة حفتر، وبين المؤتمر الوطني العام المنحل، الذي شكّل حكومة موازية في طرابلس بدعم من تحالف “فجر ليبيا”. وزاد من تعقيد الوضع صدور حكم المحكمة العليا بعدم دستورية الانتخابات، والذي رفضه مجلس النواب، معتبرًا أن القضاء في العاصمة خاضع لسلطة الميليشيات. وهكذا دخلت البلاد فعليًا في مرحلة “السلطتين المتوازيتين”، وسط مشهد مفتوح على احتمالات التصعيد والانقسام.
لم ينجح اتفاق الصخيرات الموقع في ديسمبر 2015 في كسر هذه الحلقة. فرغم تشكيل حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، إلا أن الاتفاق عانى من غياب آليات إلزامية للتنفيذ، وقوبل برفض فعلي من عدد من الأطراف الفاعلة، ما جعله تسوية على الورق دون قاعدة دعم محلية متماسكة، ودون أدوات فعلية لبسط نفوذ الحكومة المقترحة على الأرض.
بحلول عام 2021، عادت الأزمة إلى الواجهة من بوابة الخلاف الدستوري، مع تعثّر الانتخابات المقررة نهاية العام، نتيجة تصاعد التباينات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول شروط الترشح، وترتيبات القاعدة الدستورية، لا سيما بعد إعلان عبد الحميد الدبيبة ترشحه خلافًا لتعهداته السابقة، وعودة رموز من النظام السابق إلى المشهد السياسي. وقد عكست هذه التطورات أن المشكلة لا تكمن فقط في النصوص القانونية، وإنما في غياب الثقة المتبادلة، وانعدام الإرادة السياسية للتسوية. حاول المجلس الرئاسي في 2022 إطلاق مبادرة للحوار الشامل، جمعت بين الطابع الوطني والرعاية الأممية، بهدف وضع حد للمرحلة الانتقالية والانتقال إلى مسار دستوري دائم. لكن المبادرة لم تلق استجابة جدية من الأطراف المعنية، بسبب ضعف موقع المجلس داخل معادلة السلطة، ورفض المجلس الأعلى للدولة المشاركة، في ظل غياب موقف رسمي من مجلس النواب، ما أفقد المبادرة زخمها مبكرًا.
وفي العام التالي، طرح المبعوث الأممي عبد الله باتيلي مبادرة جديدة، اتسمت بانفتاح أكبر على الطيف الليبي، عبر إشراك الأطراف الرسمية وغير الرسمية، من مؤسسات سياسية، وأحزاب، ومكونات مجتمعية وثقافية. إلا أن المبادرة واجهت تحفظات سريعة، حيث اعتبرها مجلس النواب والحكومة المكلفة برئاسة باشاغا تجاوزًا لاتفاق الصخيرات وتدويلًا مرفوضًا للمسار السياسي. أما حكومة الدبيبة، والمجلس الأعلى، والمجلس الرئاسي، فاختاروا الصمت، بما يعكس حالة التردد أو الحذر، وربما الرغبة في استثمار الوضع القائم دون تقديم تنازلات حقيقية. وبرغم تداول بعض وسائل الإعلام الليبية لمواقف مؤيدة لمبادرة باتيلي، من بينها ما نُسب إلى سيف الإسلام القذافي، إلى جانب مطالبات من قبائل الطوارق وبعض الأحزاب بضرورة ضمان التمثيل داخل اللجنة التوجيهية، إلا أن غياب تصور متكامل يربط بين الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية، وافتقار المبادرة آلية شفافة لاختيار أعضاء اللجنة، أثار مخاوف واسعة من إعادة تدوير النخب و التموضعات نفسها في قوالب جديدة لا تقدم حلولًا جذرية. في المقابل، استمر الصراع بين حكومتي الدبيبة و باشاغا، مع تمسك كل طرف بموقعه، ما أدى إلى ترسيخ واقع “الازدواج المؤسسي”، وتعميق مأزق الشرعية. وفي لحظة فاصلة، أعلن المجلس الأعلى للدولة تعليق الحوار مع البرلمان بعد تمرير قانون إنشاء محكمة دستورية في بنغازي، واعتبره تهديدًا لتوازن السلطات، واشترط إلغاءه لاستئناف المفاوضات، وهو ما أعاد المشهد إلى نقطة الصفر.
رغم ذلك، لم تغب بالكامل المبادرات المحلية، فقد ظهرت محاولات مثل “ملتقى الزاوية”، وبعض المساعي لتشكيل لجنة مشتركة لصياغة قاعدة دستورية. كما شهدت عدة مدن كبرى تظاهرات تطالب بانتخابات فعلية وإنهاء سيطرة النخب التقليدية، ما يعكس تحوّلًا متناميًا في المزاج الشعبي نحو تغيير حقيقي. ومع دخول عام 2025، لا يزال الجمود سيد الموقف. حيث لم تفض مبادرة باتيلي إلى اختراق سياسي ملموس، في حين تتآكل شرعية الأجسام القائمة دون أن تفرز هذه الأزمة ضغطًا كافيًا لإعادة تشكيل المعادلة السياسية.. وبين غياب الضامن المحايد، واستمرار الانقسامات، وتآكل الثقة، تظل فرص التقدم مرهونة بظهور ظرف فارق قد يفرض معادلة جديدة، أو يقلب موازين الجمود.
ثانياً: الوضع الأمني والعسكري
منذ عدة سنوات، تحولت العاصمة الليبية طرابلس إلى ساحة صراع مفتوح بين مجموعات مسلحة متنافسة، في ظل غياب سلطة مركزية قادرة على ضبط الأمن أو دمج تلك التشكيلات ضمن مؤسسات الدولة ، هذا الوضع رسّخ الانقسام الأمني، وجعل من الاستقرار هدفًا بعيد المنال. في مقدمة الفاعلين الأمنيين ظهر عبد الغني الككلي، الملقب بـ”غنيوة”، الذي تمكّن من توسيع نفوذه من خلال قيادة جهاز دعم الاستقرار، وهو جهاز يتمتع بغطاء رسمي وصلاحيات واسعة، واستُخدم كأداة رئيسية في دعم حكومة عبد الحميد الدبيبة، والسيطرة على مفاصل العاصمة. لكن خريطة القوى المسلحة لم تقتصر على جهاز غنيوة. فقد برزت تشكيلات أخرى مؤثرة، منها لواء التوحسي التابع لوزارة الداخلية، ولواء 444 و111 الموالين لحكومة الدبيبة. وعلى امتداد عامي 2022 و2023، تكررت الاشتباكات داخل طرابلس، استهدفت أحيانًا منازل قادة ومسؤولين، وتوسعت في بعض الأحيان لتشمل مقار حكومية حساسة، ما كشف عن هشاشة الوضع الأمني، وأكد أن الصراع لم يعد يدور بين حكومتين، بل بين شبكات نفوذ مسلحة تتقاطع مصالحها وتتصادم.
جاءت نقطة التحول الأبرز في مايو 2025، حين اندلعت مواجهات دموية بين جهاز دعم الاستقرار ومليشيات مرتبطة بحكومة الدبيبة، انتهت بمقتل غنيوة، وسقوط عدد من القتلى، وفرار عدد من السجناء، وتوقف الدراسة في جامعة طرابلس، وإغلاق مطار معيتيقة. هذا التطور لم يكن مجرد اشتباك جديد، بل أعاد تشكيل ميزان القوة داخل العاصمة، بعد أن سيطرت قوات اللواء 444 و111 على مقرات جهاز دعم الإستقرار، وأعلنت وزارة الدفاع بسط نفوذها على منطقة أبو سليم، وهي من أبرز معاقل الجهاز سابقًا. وفي تطور لاحق، يعكس محاولات إعادة تموضع الجهاز بعد اغتيال قائده عبد الغني الككلي،وفقًا لتقارير إعلامية محلية، عقد حسن أبوزريبة، رئيس جهاز دعم الاستقرار المُكلّف من المجلس الرئاسي، اجتماعًا رسميًا في يوليو 2025، ضمّ مديري المكاتب والإدارات، لمتابعة سير العمل ومناقشة التحديات الراهنة والخطط المستقبلية. ورغم غياب مؤشرات واضحة على استعادة الجهاز لنفوذه السابق، فإن الاجتماع يعكس رغبة ضمنية لدى المجلس الرئاسي في الحفاظ على الجهاز كأداة أمنية قائمة، وسط مشهد أمني لا يزال في طور إعادة التشكّل بعد غياب أبرز فاعلية
الحالة الأمنية المهزوزة لم تكن حكرًا على العاصمة، بل امتدت إلى مدن أخرى في الغرب الليبي مثل الزاوية ومصراتة والزنتان، التي أصبحت مناطق نفوذ شبه مستقل، تتحكم فيها جماعات مسلحة تفرض شروطها بقوة السلاح، وتعرقل أية خطوات نحو الانتخابات أو تسوية سياسية جادة. كما أن محاولة فتحي باشاغا دخول طرابلس عام 2022 فاقمت الوضع، بعد أن لجأت حكومة الدبيبة لاستخدام الطائرات المسيّرة لقصف القوات الموالية لباشاغا، وهو ما مثّل تصعيدًا غير مسبوق وعسكرة مباشرة للخلاف السياسي. رغم الدعم السياسي الذي حظي به باشاغا من مجلس النواب، فإن قوات حفتر لم تشارك في الهجوم على طرابلس، في موقف عكس تحفظًا من الانجرار إلى مواجهة عسكرية شاملة في الغرب، وأظهر تباينًا في المواقف داخل معسكر الشرق، بل وربما رغبة في الحفاظ على توازن يسمح بمناورة سياسية مستقبلية.
منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، لم تنجح لجنة 5+5 العسكرية المشتركة في تحويل التفاهمات إلى واقع دائم، بسبب غياب جهاز أمني موحد، وانعدام الإرادة السياسية لحل المعضلة الأمنية بشكل جذري. لا تزال الفصائل المسلحة تمارس دورًا يتجاوز الدولة، وتفرض نفوذها على القرار السياسي، وتُفشل أي مسار للتوحيد المؤسسي. كما بقي المجلس الرئاسي عاجزًا عن وضع رؤية أمنية مستقلة، نظرًا لافتقاره لقوة تنفيذية تتبع له فعليًا. وقد أعاد اغتيال غنيوة إلى الواجهة التساؤلات حول مستقبل العاصمة، وأثار نقاشات إقليمية ودولية بشأن استدامة الترتيبات الأمنية الحالية، وإمكانية الدفع نحو نموذج أكثر مركزية أو تدخل أممي مباشر في حال تفاقم الانهيار الأمني. وبين تحولات الساحة الداخلية وتبدل مواقف اللاعبين الإقليميين، يبدو أن السيطرة على طرابلس لم تعد مسألة ميدانية فقط، بل اختبار حقيقي لجدية أي مشروع لبناء الدولة في ليبيا.
ثالثاً: الأدوار الإقليمية والدولية
لم تكن الأزمة الليبية بمعزل عن التأثيرات الإقليمية والدولية، إذ تحوّلت البلاد إلى ساحة تنافس جيوسياسي مكثف بين عدد من الفاعلين الخارجيين الذين تقاطعت مصالحهم مع طبيعة الانقسام الليبي ، فقد تبنّت تركيا منذ سقوط نظام القذافي سياسة تدخل نشطة في ليبيا، استندت إلى مزيج من المصالح الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية، إضافة إلى اعتبارات إيديولوجية وتاريخية، ما جعلها فاعلًا رئيسيًا في المشهد الليبي خلال السنوات الماضية.
دفعت المصالح التركية الاستثمارية الضخمة التي راكمتها الشركات التركية في ليبيا منذ عهد القذافي أنقرة للتحرك لحماية ما اعتبرته “أصولًا استراتيجية”، خاصة في قطاعات الإعمار والبنية التحتية، والتي بلغت قيمتها عشرات المليارات. كما شكّلت مسألة تقاسم موارد الطاقة في شرق المتوسط دافعًا إضافيًا، خصوصًا بعد استبعاد أنقرة من منتدى غاز شرق المتوسط، ما دفعها لتوقيع مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق في 27 نوفمبر 2019 بشأن التعاون الأمني وتحديد الحدود البحرية.
عسكريًا، استخدمت تركيا هذه الاتفاقات لتبرير تدخلها المباشر لصالح حكومة الوفاق في مواجهة قوات المشير/ خليفة حفتر، مؤكدة أن الدعم جاء بطلب رسمي من حكومة معترف بها دوليًا. وقد مهّد البرلمان التركي الطريق لهذا التدخل بإقرار مذكرة رسمية في يناير 2020، ما أتاح لأنقرة إرسال قوات، وإنشاء قواعد، وتقديم دعم لوجستي وتدريبي، بما غيّر موازين القوى على الأرض لصالح حلفائها. أما على المستوى الإيديولوجي، فقد مثّل التدخل امتدادًا لرؤية “العثمانية الجديدة” التي يتبناها حزب العدالة والتنمية، وسعيًا لاستعادة نفوذ تاريخي في منطقة تُعد جزءًا من الإرث العثماني. كما استثمرت تركيا وجودها لدعم تيارات الإسلام السياسي المتحالفة معها، وتكريس نفوذها ضمن تحالفات إقليمية تُعارض المحور الداعم لحفتر.
في السياق الجيوسياسي، جاء التحرك التركي في ليبيا ضمن استراتيجية أوسع لفرض حضور إقليمي في شمال إفريقيا وشرق المتوسط، وتوسيع أوراق الضغط في ملفات إقليمية مثل سوريا والهجرة، وموازنة قوى مثل مصر وفرنسا واليونان. كما ارتبط هذا التدخل بمحاولة تحجيم النفوذ الروسي، واستغلال التراجع الأمريكي في عهد ترامب لتوسيع هامش المناورة في ساحات متشابكة. رغم هذه المكاسب، ساهم التدخل التركي، إلى جانب تدخلات أخرى، في تعميق الانقسام الليبي، وإطالة أمد النزاع، وتغليب الحل العسكري على السياسي، وهو ما انعكس في رفض مجلس النواب في الشرق للاتفاقات الموقعة مع أنقرة واعتبارها غير شرعية، ما زاد من حدة الاستقطاب بين شرق البلاد وغربها. في النهاية، يتسم الدور التركي في ليبيا بالبراجماتية، حيث سعت أنقرة لضمان نفوذ فعلي في بيئة هشة، والاستفادة من حالة الفراغ الإقليمي والدولي، عبر مقاربة تراوح بين تأمين المصالح المباشرة وتوسيع التأثير الجيوسياسي.
احتفظت مصر بموقف ثابت يقوم على دعم وحدة الأراضي الليبية وسيادتها الكاملة، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن استقرار ليبيا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن القومي المصري، بحكم الجوار الجغرافي والحدود الطويلة المشتركة. وتُدرك القاهرة أن استمرار الفوضى في ليبيا يمثّل تهديدًا حقيقيًا لسلامة حدودها وأوضاع العمالة المصرية هناك، ما يجعل استقرار ليبيا أولوية استراتيجية. ووفقا لموقف مصر الثابت في التعامل مع الأزمات المتمثل في وحدة الأراضى الليبية ورفض التدخل الخارجى، لذلك ترفض مصر نهائيًا أي حلول عسكرية، وتؤكد أن الخروج من الأزمة لا يمكن أن يتم إلا عبر مسار سياسي شامل يعبّر عن إرادة الليبيين، ويُنهي حالة الانقسام والفوضى، مع التأكيد على ضرورة تفكيك الميليشيات المسلحة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة باعتبارها الجهة الشرعية الوحيدة لاستخدام القوة. كما تؤيد القاهرة دور الأمم المتحدة كمظلة أساسية للتسوية، وتتمسك بالمرجعيات المعترف بها دوليًا وعلى رأسها اتفاق الصخيرات، داعية إلى إشراك جميع الأطراف دون إقصاء، بما يشمل تمثيل حقيقي لمكونات الشرق الليبي. وعلى المستوى العملي، طرحت مصر “إعلان القاهرة” كمبادرة متكاملة تعالج الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتركز على توحيد المؤسسات، وضمان التوزيع العادل للثروة، تمهيدًا لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية تحت إشراف دولي.
وبعد فترة ركزت فيها القاهرة دعمها على المؤسسات المنتخبة في الشرق الليبي، تحولت تدريجيًا نحو تبني سياسة أكثر انفتاحًا تجاه مختلف القوى الليبية، السياسية والعسكرية، وسعت إلى تيسير الحوار مع مختلف الأطراف عبر استضافتهم في القاهرة، دعمًا للتوافق وإنهاء الجمود. وفي المجمل، ترى مصر أن الحل الأمثل يتمثل في تسوية سياسية شاملة تُنتج سلطة تنفيذية موحدة، وجيشًا وطنيًا جامعًا، ومؤسسات قادرة على استعادة الاستقرار، بما يحمي المصالح المصرية ويضمن أمن ليبيا والمنطقة بأكملها.
بينما إتخذت الولايات المتحدة منذ إدارة الرئيس جو بايدن، منحى أكثر انخراطًا في المسار الليبي، بعد فترة من التردد والتراجع النسبي في التأثير. ويمثل تعيين السفير/ ريتشارد نورلاند مبعوثًا خاصًا للرئيس إلى ليبيا في مايو 2021 نقطة تحول في السياسة الأمريكية، إذ ربطت واشنطن بين استقرار ليبيا ومصالحها الاستراتيجية، خصوصًا في ظل تنامي النفوذ الروسي وتداخل الأزمات الإقليمية.
التحركات المتكررة لنورلاند، ولقاءاته مع مختلف الأطراف، تعكس حرصًا أمريكيًا على ضبط الإيقاع السياسي والأمني في لحظة حرجة، خصوصًا بعد تصاعد الاشتباكات في طرابلس وسقوط قتلى، وهو ما دفعه للتحذير من أن الوضع “لم يعد يحتمل”، مطالبًا بتسوية تُنهي الجمود، وتدفع نحو انتخابات واقعية تستند إلى قاعدة دستورية واضحة. ترى واشنطن أن التوافق على قوانين انتخابية عادلة، ومحاسبة من يعرقل التقدم السياسي، يمثلان مطلبًا شعبيًا ليبيًا ملحًا، وشرطًا لتثبيت شرعية المؤسسات. هذا الموقف ينسجم مع دعمها المتواصل لبعثة الأمم المتحدة، ومشاركتها الفاعلة في أعمال لجنتها الاستشارية، مع التأكيد على ضرورة إنهاء الانقسام المالي، واعتماد موازنة موحدة تعالج الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
في المقابل، لا يمكن تجاهل الأبعاد الجيوسياسية للموقف الأمريكي. فجزء كبير من التحرك الأمريكي يستهدف الحد من النفوذ الروسي في ليبيا، سواء عبر التواجد غير المعلن لقوات “أفريكوم”، أو عبر الضغط السياسي والدعم الفني لمبادرات التسوية، مع الحرص على ألا تترك الساحة خالية لموسكو. ووفقًا لتصريحات نُسبت إلى مسعد بولس، مستشار الرئيس الأمريكي/ دونالد ترامب لشؤون الشرق الأوسط، فقد كشف عن توجه أكثر وضوحًا نحو حل متوازن، يجمع بين مختلف الأطراف دون إقصاء، ويراعي توازن المصالح الداخلية والدولية. ورغم هذا الانخراط، لا تزال واشنطن تبدي قلقًا من استمرار انتهاكات حظر السلاح، وانتشار الفساد وعمليات تهريب الوقود، وهو ما يجعلها تطالب بتفعيل آليات الرقابة الدولية، ومتابعة التقارير الصادرة عن لجنة العقوبات في مجلس الأمن.
في المحصلة، تتجه السياسة الأمريكية في ليبيا نحو صيغة أكثر مرونة وتوازنًا، تسعى من خلالها واشنطن لتثبيت الحد الأدنى من الاستقرار، دون الانزلاق إلى التورط المباشر، مع الحفاظ على مصالحها، وتقليص المجال أمام خصومها الجيوسياسيين.
بينما تتعامل روسيا مع الملف الليبي باعتباره ساحة نفوذ مفتوحة ضمن صراعها الأوسع مع الغرب، حيث تتبنى نهجًا مرنًا قائمًا على توظيف الأدوات غير التقليدية، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة. وتُعد ليبيا إحدى نقاط التماس التي توظفها موسكو لتقويض الأدوار الغربية، وتعزيز حضورها في شمال إفريقيا وشرق المتوسط، من خلال استثمار الانقسام الليبي وتعدد الفاعلين المحليين.
وبحسب تقارير دولية، تتمركز مجموعة فاغنرفي صلب التحرك الروسي داخل ليبيا، كأداة فعّالة لفرض النفوذ عبر وكلاء ميدانيين، يُنفذون مهامًا عسكرية وأمنية تمنح موسكو هامشًا واسعًا للتدخل دون تبنّي مسؤولية رسمية. ويأتي هذا الوجود في سياق أوسع تعمل فيه روسيا على ترسيخ تموضعها في مناطق الفراغ الجيوسياسي، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية بأقل تكلفة سياسية أو عسكرية مباشرة، مستفيدةً من الانقسام الليبي وتعدد الفاعلين المحليين.المقاربة الروسية لا تقوم فقط على الدعم العسكري، بل تشمل التلاعب بالخطاب الإعلامي، وتقديم مبررات تتراوح بين “محاربة الإرهاب” أو “دعم الاستقرار”، في حين أن الأهداف الفعلية ترتبط بإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، واستخدام ليبيا كورقة مناورة في ملفات أشمل، مثل العلاقات مع الناتو، والأزمة الأوكرانية، والصراع على النفوذ في الشرق الأوسط.
في المقابل، أثار هذا التمدد الروسي قلقًا متزايدًا لدى الغرب، باعتبار أن مثل هذه التحركات تعمق حالة الانقسام، وتُعقّد فرص التسوية، وتُوفر موطئ قدم لروسيا في عمق الجنوب الأوروبي. كما شكّل الغطاء غير الرسمي لأنشطة فاغنر تحديًا أمام محاولات ضبط سلوك الفاعلين الأجانب، وأربك الجهود الأممية والدولية الساعية لضبط التوازن داخل ليبيا. في المجمل، لا يمكن فصل التحرك الروسي في ليبيا عن بنية استراتيجية تعتمد على تفكيك النفوذ الغربي، وتوسيع دائرة النفوذ الروسي عبر أدوات هجينة، تدمج بين العمل العسكري غير النظامي، والتأثير السياسي، والحرب الإعلامية، في مشهد تتداخل فيه الحسابات المحلية مع رهانات دولية معقدة.
رابعاً: المسارات المحتملة
في ظل المشهد الليبي الراهن، الذي يتسم بانقسام سياسي عميق، وازدواج مؤسسي متجذّر، وواقع أمني هش، إضافة إلى تدخلات إقليمية ودولية متشابكة، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات رئيسية لتطور الأزمة خلال الفترة المقبلة، كل منها مرتبط بمسارات القوى الداخلية وحدود تدخلات الخارج.
السيناريو الأول: تسوية سياسية جزئية بضمانات دولية
يفترض هذا السيناريو أن تشهد الأزمة انفراجة محدودة تقود إلى توافق مرحلي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بضغوط أممية وأمريكية متواصلة، في ظل تهدئة مؤقتة في طرابلس عقب مقتل عبد الغني الككلي، وإعادة ضبط موازين القوى داخل العاصمة. هذا السيناريو قد يفضي إلى التوافق على قاعدة دستورية مرحلية تُجرى بموجبها انتخابات عامة، مع توازن إقليمي بين مواقف مصر وتركيا. إلا أن فرص تحقق هذا المسار ستظل رهينة بقدرة الأطراف المحلية على تقديم تنازلات، وبتماسك المسار الأمني، وتفادي أي تصعيد ميداني يُعيد خلط الأوراق.
السيناريو الثاني: بقاء الوضع على ما هو عليه بتوازنات رخوة
في هذا السيناريو، تستمر حالة الجمود السياسي، مع تمسك كل طرف بمؤسساته ومواقعه، وغياب الحد الأدنى من الثقة بين القوى المتنازعة. وتبقى طرابلس تحت رحمة اشتباكات متقطعة بين المجموعات المسلحة المتنافسة، دون قدرة فعلية لأي طرف على الحسم. إقليميًا، تحافظ القوى الداعمة على علاقاتها وتحالفاتها دون تحريك جذري، بهدف تجنّب الانفجار، ولكن دون دعم حقيقي لمسار تسوية شامل. هذا المسار يكرّس واقعًا هشًا، ويُبقي ليبيا داخل دائرة التأزيم المزمن، بلا أفق واضح.
السيناريو الثالث: تصعيد عسكري واسع وفشل المسارات السياسية
وهو السيناريو الأسوأ، ويقوم على انهيار الجهود الأممية، وعودة الصراع المفتوح، خاصة في حال استمرت بعض الأطراف في محاولة فرض وقائع بالقوة. غياب السيطرة على المجموعات المسلحة في طرابلس، أو انزلاق إحدى القوى إلى مغامرة عسكرية، قد يُعيد الفوضى على نطاق واسع، وربما يفتح المجال لتحرك عسكري من الشرق. وفي هذه الحالة، تتسارع خطوات التدويل، وقد تفرض قوى خارجية تسوية فوقية دون مشاركة حقيقية من الداخل، مما يفاقم الأزمة بدلًا من حلّها.
في النهاية ، تُظهر هذه السيناريوهات أن مستقبل الأزمة الليبية يظل مرهونًا بعنصرين أساسيين:
أولًا، تغير سلوك الفاعلين المحليين واستعدادهم للتخلي عن منطق المكاسب الضيقة. وثانيًا، وجود ضغط دولي منسق وفعّال قادر على فرض تسوية متوازنة تعالج جذور الصراع لا مظاهره فقط. وإلى أن يتوفر هذان الشرطان، ستظل ليبيا رهينة معادلة مضطربة، تتقاطع فيها الحسابات المحلية والإقليمية والدولية، بينما يبقى المواطن الليبي خارج معادلة التأثير، وأسيرًا لخيارات لم يصنعها.
المصادر
١. عبدالله فارس القزاز ، تأثير اغتيال غنيوة على الاستقرار وتوازن القوى في غرب ليبيا ، مجلة السياسة الدولية ، 21/5/2025.
https://www.siyassa.org.eg/News/22013.aspx
٢. د. خالد خميس السحاتي، “مستقبل الأزمة الليبية في ظـل ازدواجـية السلطـة”، *آفاق مستقبلية*، العدد الثالث، يناير 2023، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.
٣. “تحالفات هشة: تراجع فرص نجاح مبادرة الرئاسي الليبي في تجاوز الانقسام السياسي”، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 14 ديسمبر 2022.
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/7855
٤. عبد الله، بلال. “تعدُّد مسارات التسوية الليبية: المبادرات الراهنة والسيناريوهات المحتملة.” مركز الإمارات للسياسات، 5 فبراير 2024.
٥. حسين عبد الراضي، “حصاد العام العاشر: كيف شكل عام 2021 نقطة تحول في مسار الأزمة الليبية؟”، المركز المصري للدراسات الإستراتيجية، 2 يناير 2022.
٦. “مآلات الصراع الليبي بعد انتخاب سلطة جديدة”، مركز المستقبل لدراسات المتقدمة، 16 فبراير 2021.
https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/6084
٧. د. محمد القايــدي، “الأزمة الليبية: الفواعل المحركة للصراع والمسارات المستقبلية”، مركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية، 11 سبتمبر 2023.
https://mediterraneancss.uk/2023/09/11/libyan-crisis/
٨. عبدالله فارس القزاز ، دلالات مبادرة المجلس الرئاسي ومأزق التوافق الوطني في ليبيا ، مجلة السياسة الدولة ، 18/6/2025
https://www.siyassa.org.eg/News/22024.aspx
9. المواجهة الغربية:كيف تتعامل موسكو مع الحروب الهجينة؟ ، مركز المستقبل الابحاث والدراسات المتقدمة ، 30/11/2020
https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/5936/
10. د. توفيق بوستي ، التدخل التركي في ليبيا: الدوافع والتداعيات ،مركز المتوسط لدراسات الاستراتيجية ، 12/1/2024
https://mediterraneancss.uk/2024/01/12/turkish_-intervention_-in_-libya/
11. خالد خميس السحاتي ، الولايات المتحدة والأزمة الليبية.. كيف تغيرت المواقف مع تعـاقب الإدارات؟ ، مجلة السياسة الدولية ، 18/8/2022.
https://www.siyassa.org.eg/News/18343.aspx
12. علاء فاروق ، إستراتيجية مصرية جديدة في التعامل مع المشكل الليبي.. هل تنجح في فك طلاسمه؟ ،مركز الدرسات العربية الاروسطية ، 18/1/2025.
13. أ.م. د فايق حسن , معطيات الصراع الليبي بعد 2011, جــامــعــة بــغــداد, كــلــيــة الــعــلــوم
الــــســــيــــاســــيـــــة, قــــســـم إدارة الصراعات وبناء السلم الدولي ,
14. علي بن موســى , ليبيــا بين الانقسامات والكوارث: التّّفتت السياسي والاستجابة إلى فيضانات درنة , مجلـس الشــرق الأوســط للشؤون الدولية , أغسطس 2024.
15.د. توفيق بوسي ، التدخل التركي في ليبيا والتداعيات ، مركز المتوسط للدراسات الإستراتيجية ،