عبدالله فارس القزاز .. باحث بوحدة الدراسات الإفريقية

يشهد السودان خلال عام 2025م مرحلة حاسمة في تاريخه السياسي والعسكري، إذ أعاد صعود محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى واجهة الأحداث رسم ملامح جديدة لمعادلة السلطة والقوة داخل الدولة. فقد تحوّلت مليشيات  الدعم السريع من مجرد قوة ميدانية تابعة إلى كيان سياسي وعسكري موازٍ يسعى إلى فرض شرعية بديلة، الأمر الذي جعل البلاد تواجه واقعًا مزدوجًا بين مؤسستين، واحدة شرعية والثانية تدعي الشرعية، تتنازعان السيادة وتتحكمان في الموارد والقرارات. ولم يكن هذا التحول مجرد تبدّل في موازين القوى التقليدية، بل مثّل انتقالًا فعليًا من منطق الدولة المركزية إلى منطق السيطرة الميدانية والاقتصاد الحربي، وهو ما غيّر طبيعة الصراع من نزاع سياسي محدود إلى أزمة بنيوية تمسّ هوية الدولة ووحدة مؤسساتها.

وفي هذا الإطار، تتداخل الأبعاد العسكرية والاقتصادية مع البنية السياسية والقبلية لتكوّن معًا جوهر المعادلة السودانية الراهنة. فالجيش وميلشيات الدعم السريع لم يعودا فاعلين منفصلين فحسب، بل أضحيا انعكاسًا لتوازنات اجتماعية وجهوية واقتصادية معقّدة. كما أن الحرب، التي بدأت في الأساس كصراع على السلطة، تحوّلت تدريجيًا إلى منظومة قائمة على اقتصاد الحرب والتحالفات القبلية والسياسية، تتغذى من موارد الدولة وتعيد إنتاج الانقسام الأهلي في أشكال متعددة.

وتتزامن هذه التحولات الداخلية مع بيئة إقليمية مشبعة بالتنافس والصراع، جعلت من السودان ساحة مفتوحة لصراع النفوذ بين القوى الإقليمية الساعية إلى تعزيز حضورها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. ولم يعد الصراع شأنًا داخليًا بحتًا، بل أصبح جزءًا من معادلة إقليمية أوسع تتقاطع فيها اعتبارات الأمن والاقتصاد والسياسة.

تطرح هذه الورقة سؤالاجوهريا: هل يستطيع السودان أن يحوّل لحظة الصراع الراهنة إلى فرصة لإعادة تأسيس الدولة على أسس جديدة من التوازن والشرعية، أم أن البلاد تتجه نحو دورة جديدة من إعادة إنتاج الأزمات؟، وتهدف هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية استشرافية لهذه التحولات عبر ثلاثة محاور مترابطة، المعادلة العسكرية والاقتصاد الحربي، والمعادلة السياسية القبلية، ثم مستقبل الاستقرار والتنافس الإقليمي، فتسعى إلى تفكيك بنية الصراع القائم، ورصد المؤشرات الدالة على تغيّر موازين القوى، واستشراف السيناريوهات المحتملة لمستقبل السودان.

أولًا: المعادلة العسكرية والاقتصاد الحربي

أعاد صعود محمد حمدان دقلو (حميدتي) عام 2025م تشكيل المعادلة العسكرية في السودان، منتقلاً بها من دائرة الدولة إلى دائرة القوة الموازية ، فقد أظهرت التطورات الأخيرة واقعًا جديدًا يقوم على ازدواجية السيطرة بين الجيش النظامي وميليشيات الدعم السريع، بعد إعلان حميدتي تأسيس حكومة موازية تمثل امتدادًا مباشرًا لنفوذه الميداني والعشائري. هذا التحول أدى إلى تشتت مراكز القرار العسكري والسياسي خارج الإطار المؤسسي، ما أفقد مؤسسات الدولة جزئيا قدرتها على العمل بوصفها كيانًا موحدًا ومتماسكًا.

ومع استمرار الحرب، ترسخ “الاقتصاد الحربي” أو الاقتصاد القائم على الصراع بوصفه القاعدة الجديدة لإدارة الصراع، حيث باتت الموارد  من مناجم الذهب في دارفور إلى طرق التهريب عبر الحدود الغربية أدوات للنفوذ والتمويل بدلًا من أن تكون روافع للتنمية وبناء الدولة، وهكذا تحوّل التنافس العسكري الاقتصادي إلى مركز الأزمة، لا إلى وسيلة لإنهائها، في مشهد يجسد هشاشة التوازن بين الطموح العسكري والشرعية السياسية.

شهد عام 2024م مرحلة تمهيدية لما آلت إليه الأوضاع، إذ بدأت ميليشيات الدعم السريع بالسيطرة على مواقع ذات أهمية استراتيجية واقتصادية، ما أسس لقيام “اقتصاد الحرب” القائم على الاستحواذ على الموارد وتعطيل الاقتصاد المدني “الاقتصاد الرسمي السوداني”، وردّت القوات النظامية بهجمات جوية مكثفة هدفت إلى تقليص نفوذ الميليشيات في المدن الكبرى، وصولًا إلى إعلان الجيش في مطلع 2025م سيطرته على القصر الرئاسي، وهي خطوة مثلت نقطة تحول مفصلية في مسار الصراع. ومع تصاعد العمليات ضد القوات غير النظامية “الدعم السريع” في أم درمان، لجأت الأخيرة إلى بناء تحالفات سياسية انتهت بتشكيل حكومة موازية.

وخلال النصف الثاني من أغسطس 2025م، دخلت المعارك مرحلة أكثر شراسة. ففي كردفان، شنّ سلاح الجو السوداني ضربات متتالية على مواقع الدعم السريع في “بارا” و“الخوي” و“النهود”، بينما شهد إقليم دارفور عمليات قصف واسعة في “مليط” و“الطينة” و“نيالا”، تبعها رد دموي من ميليشيات الدعم السريع على مخيم “أبوشوك” للنازحين، ما أسفر عن عشرات القتلى. وترافقت هذه المواجهات مع تدهور إنساني متسارع عقب قصف قافلة مساعدات وبرنامج الأغذية العالمي في “مليط”، في دلالة واضحة على تفاقم الانفلات الأمني وفقدان السيطرة الميدانية.

وفي 30 أغسطس 2025م، جاء إعلان تحالف “التأسيس” في نيالا عن تشكيل حكومة موازية برئاسة حميدتي، واختيار عبد العزيز الحلو نائبًا له، ومحمد التعايشي رئيسًا للوزراء، ليشكّل محطة فارقة في مسار الأزمة. فقد مثّل هذا الإعلان أول محاولة منظمة لتحويل السيطرة الميدانية إلى كيان سياسي ذي طابع مؤسسي، كما عكست مراسم أداء اليمين في أجواء احتفالية بمدينة نيالا رمزية انتقال مركز القرار من الخرطوم إلى دارفور جزئيا، بالإضافة الي ذلك التصعيد في الفاشر في سبتيمر من العام الحالي، في إشارة إلى إعادة توزيع موازين السلطة داخل السودان. وبذلك لم يعد الصراع بين الجيش والدعم السريع مواجهة عسكرية فحسب، بل تحول إلى تنافس على الشرعية السياسية وبناء مؤسسات موازية، ما عمّق الانقسام بين معسكرين متوازيين داخل الدولة.

وقد انعكست هذه المعادلة العسكرية الاقتصادية على الدولة السودانية في مستويات متعددة. إذ أدى انقسام القرار المركزي إلى عجز الحكومة عن إدارة مؤسساتها، وتحولت الأقاليم إلى مراكز قرار فعلية تتعامل مع الخارج بمعزل عن السلطة المركزية، كما أفرزت الحرب تحولًا جذريًا في الاقتصاد، من نموذج الإنتاج المدني إلى نموذج “اقتصاد الصراع”، القائم على السيطرة على الموارد بدلًا من إنتاجها. ومع مرور الوقت، بدأت ملامح “اللامركزية القسرية” تتبلور، ليس كخيار إداري، بل كنتيجة مباشرة لتوازن القوى بين الأطراف المتحاربة. إن استمرار هذه البنية دون معالجة جذرية تعيد توحيد المؤسسة العسكرية وتنظّم استغلال الموارد الاستراتيجية. وهذا يعني أن السودان سيظل رهينة اقتصاد الحرب، وأن أي تسوية سياسية محتملة ستبقى مؤقتة وهشة.

ثانيًا: المعادلة السياسية–القبلية

مع تصاعد حدّة الصراع في السودان خلال عام 2025م، برز البعد القبلي كعامل حاسم في إعادة تشكيل المشهدين السياسي والاجتماعي، خصوصًا بعد انتقال مركز القرار جزئيًا من الخرطوم إلى دارفور إثر إعلان حكومة موازية بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). فقد سعى كل من الجيش والقوات غير النظامية “الدعم السريع” إلى استمالة القبائل الكبرى لضمان النفوذ والسيطرة الميدانية، غير أن هذه المساعي سرعان ما كشفت حدود التوظيف السياسي للقبيلة، إذ أدى الانقسام داخل البنية الأهلية إلى تفكك التحالفات وتآكل شرعية الزعامات التقليدية. ومع اتساع رقعة العنف، لم يعد الصراع مجرد تنافس عسكري على الأرض، بل تحوّل إلى مواجهة تهدد النسيج الأهلي ذاته، حيث أصبحت دارفور وكردفان مسرحًا لصراعات قبلية–سياسية متداخلة تهدد بتفكيك المجتمع من الداخل، الأمر الذي جعل المعادلة السياسية–القبلية أحد أبرز محددات مسار الحرب ومستقبل الدولة السودانية.

ولا تمثل القبيلة مجرد وحدة اجتماعية تقليدية، بل تشكّل جزءا بنيويًا في الحياة السياسية والاجتماعية، لا سيّما في المناطق الطرفية مثل دارفور. ومع إعادة تشكيل الحرب وفق منطق قبلي، ظهرت تعقيدات متشابكة من أبرزها تعذّر تقسيم الولاءات داخل القبيلة، إذ لا يمكن النظر إليها باعتبارها كيانًا جغرافيًا قابلًا للتقسيم بسهولة، فهي شبكة من العلاقات النسبية والروحية المتداخلة، ما يجعل تفكيكها أو إعادة توجيهها عملية مكلفة اجتماعيًا وإنسانيًا. كما أدت الحرب إلى تفكك الروابط العائلية تحت ضغط الاستقطاب السياسي والعسكري، فتسرّب الانقسام إلى داخل الأسر والعشائر الصغيرة، ما زاد من منسوب العنف، وأضعف قدرة المجتمع المحلي على الصمود. كذلك، أدى تسييس القبيلة وتحويلها إلى أداة تعبئة ونفوذ إلى تآكل المكانة التاريخية للزعامات الأهلية، إذ تحوّل الشيوخ والعُمد من وسطاء اجتماعيين إلى أطراف مباشرة في الصراع، وهو ما قلل من قدرتهم التقليدية على احتواء النزاعات والحفاظ على التوازن الأهلي.

وقد أنهك هذا الانقسام البنيوي الأطراف المتصارعة، سواء الجيش أو  القوات غير القانونية “الدعم السريع”، إذ تفتت التحالفات القبلية الهشة تحت ضغط المعارك وتبدّل الولاءات، وفقدت الزعامات التقليدية جزءًا كبيرًا من شرعيتها الاجتماعية بعد تورطها في الصراع. كما أدى النزيف الداخلي في البنية القبلية إلى استنزاف الموارد البشرية والاجتماعية، وتعقيد مسارات التفاوض السياسي، إذ لم يعد الاتفاق مع زعامة واحدة كافيًا لتمثيل القبيلة بأكملها، الأمر الذي جعل التسويات السياسية أكثر هشاشة وتعقيدًا.

ولم تقتصر هذه المعادلة على مناطق الغرب، بل امتدت شرقًا مع تصاعد التوتر داخل قبائل البجا خلال عامي 2024م و2025م، حيث شهد الإقليم تنافسًا حادًا بين الناظر محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، والفريق شيبة ضرار، قائد تحالف شرق السودان. وقد اكتسب هذا التنافس أبعادًا سياسية واضحة تجلّت في الاحتجاجات وإغلاق الطرق الاستراتيجية مثل طريق كسلا–بورتسودان، ما عكس انتقال الصراع من الولاءات السياسية للدولة إلى نزاع قبلي حول إعادة توزيع السلطة داخل الإقليم. كما ساهم ظهور زعامات جديدة في تفكيك وحدة الهدندوة من خلال إنشاء نظارات فرعية، وهو ما أضعف سلطة ترك التقليدية، وأبرز أن المعادلة القبلية باتت أداة لإعادة تشكيل النفوذ المحلي في ظل اتخاذ الحكومة المؤقتة من بورتسودان مقرًا لها، بما يرفع من احتمالات عدم الاستقرار في الشرق.

وعلى المستوى الإقليمي، عكست تطورات جنوب السودان مطلع عام 2025م مدى ترابط البنية القبلية في المنطقة وتأثيرها المتبادل. فقد أدى اعتقال رياك مشار وعدد من كبار حلفائه إلى اختراق اتفاق السلام الهش الموقّع عام 2018، وإحياء الصراع بين قبيلتي الدينكا والنوير، بعد أن سيطرت ميليشيا “الجيش الأبيض” المرتبطة بمشار على بلدة الناصر الحدودية مع إثيوبيا. وقد أبرزت هذه التطورات هشاشة التوازنات القبلية في الجنوب، وأعادت إلى الواجهة جذور الأزمة التاريخية التي تعود إلى انقسام الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 1991.

فتح تحالف الدعم السريع مع قطاع الشمال في جبال النوبة ممرات عسكرية تمتد من دارفور غربًا إلى أعالي النيل جنوبًا، ما جعل التفاعلات القبلية تتحول إلى معضلة إقليمية مترابطة يمكن لأي اشتعال في الجنوب أن ينعكس مباشرة على الشمال والعكس. وزاد انهيار خط أنابيب النفط في عام 2024 من هشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي في جوبا، واضطر الرئيس سلفا كير إلى المناورة بين طرفي الصراع في السودان لتأمين صادرات النفط، مما زاد من تعقيد المشهد القبلي والسياسي في الجنوب وارتباطه المباشر بالمعادلة السودانية القائمة[WU1] .

ورغم التكلفة الباهظة لهذه الصراعات، فإنها قد تفتح الباب أمام تحولات بنيوية عميقة داخل المجتمع السوداني، من أبرزها بروز تحالفات جديدة لا تقوم على الانتماء القبلي فقط، بل على المصالح الاقتصادية أو الأيديولوجية، وصعود نخب محلية وشخصيات ميدانية على حساب الزعامات التقليدية، وتشكّل هويات مركبة لدى الأجيال الجديدة تجمع بين الانتماء الأهلي والمشاركة في الحركات المسلحة أو المبادرات المدنية. وقد تؤدي هذه التحولات إلى إعادة توزيع النفوذ السياسي والاجتماعي على أسس أكثر تعقيدًا تتجاوز منطق القبيلة التقليدي إلى معادلات جديدة ترتبط بالقوة الميدانية والموارد والعلاقات الإقليمية.

بالتالي أصبحت المعادلة السياسية–القبلية في السودان عام 2025م بمثابة شبكة شديدة التعقيد تتداخل فيها التفاعلات الداخلية في دارفور وكردفان مع تحولات السلطة في شرق السودان وامتداداتها القبلية إلى جنوب السودان، وهو ما يجعل أية تسوية سياسية مستقبلية مرهونة بإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع الأهلي، وضبط الأبعاد القبلية محليًا وإقليميًا في آن واحد.

ثالثًا: مستقبل الاستقرار والتنافس الإقليمي

يتجه المشهد السوداني، في ظل التوازنات العسكرية–الاقتصادية والبنى السياسية–القبلية المتشابكة، نحو مرحلة يُعاد فيها رسم حدود النفوذ المحلي والإقليمي. فغياب الحسم العسكري، وتعدد مصادر التمويل، والدعم الخارجي يجعلان مستقبل الاستقرار رهينًا بالتفاعل بين القوى الداخلية، الجيش وميليشيات الدعم السريع  من جهة، والمصالح الإقليمية الفاعلة من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات رئيسية تمثل اتجاهات محتملة لمسار الأزمة ومؤشرات استشرافية لمآلات الصراع ومحددات التنافس الإقليمي حول السودان.

السيناريو الأول: تسوية سياسية برعاية إقليمية مشروطة

يرتكز هذا السيناريو على فرضية أن حالة الاستنزاف المتبادل عسكريًا واقتصاديًا ستدفع القوى الإقليمية المؤثرة،  وعلى رأسها مصر والسعودية والإمارات، إلى رعاية تسوية سياسية مشروطة تهدف إلى احتواء الصراع ومنع تفكك الدولة. وتتجسد ملامحه في صيغة تقاسم للسلطة والنفوذ بين القوات النظامية وميليشيات الدعم السريع، تحت إشراف دبلوماسي من منظمة “إيجاد” والاتحاد الإفريقي، بينما يبقى القرار الفعلي بيد العواصم الإقليمية الكبرى. وتدل المؤشرات الداعمة لهذا المسار على تكثيف المبادرات الإقليمية والدعوات إلى وقف إطلاق النار، وازدياد اللقاءات غير المعلنة بين ممثلي الجيش والدعم السريع، إلى جانب الحراك الدبلوماسي النشط لإحياء دور المؤسسات الإقليمية. ورغم أن هذا السيناريو قد ينتج استقرارًا هشًّا يقوم على توازن الردع أكثر منه بناء مؤسسات الدولة، إلا أنه يظل المسار الأكثر واقعية في حال تقاطعت المصالح الإقليمية حول تسوية مرحلية تحفظ الحد الأدنى من تماسك السودان.

السيناريو الثاني: انتصار عسكري حاسم للقوات النظامية

يفترض هذا السيناريو أن الجيش السوداني قد يتمكن من تحقيق تفوق ميداني حاسم، مستفيدًا من دعم مصري مباشر أو من تنسيق استخباراتي إقليمي يعيد له السيطرة على العاصمة والمراكز الحيوية. ويستند هذا الاحتمال إلى مؤشرات ميدانية عدة، أبرزها تصاعد العمليات العسكرية المنظمة بقيادة الجيش، وتراجع الدعم الخارجي الموجّه إلى مليشيات الدعم السريع، فضلًا عن تصاعد الخطاب الرسمي الداعي إلى “استعادة هيبة الدولة” و“توحيد السلاح”. غير أن هذا النصر العسكري، إن تحقق، لا يضمن استقرارًا مستدامًا، إذ ستواجه الدولة تحديات هيكلية تتعلق بإعادة بناء الجهاز الإداري، واستيعاب القوى القبلية المسلحة، وإصلاح الاقتصاد المرتبط بالمؤسسة العسكرية. كما أن غياب تسوية سياسية شاملة قد يدفع الأطراف المهمشة إلى تجديد التمرد في الأطراف، ما يجعل الاستقرار في هذا السيناريو أقرب إلى إعادة إنتاج المركزية القديمة دون معالجة جذور التفكك.

السيناريو الثالث: تحوّل تدريجي نحو نموذج “اللامركزية الواقعية”

يقوم هذا السيناريو على إدراك متبادل من الطرفين، الجيش والقوات غير النظامية “الدعم السريع”،  لاستحالة الحسم العسكري، والاتجاه نحو تسوية تدريجية تقوم على نظام فيدرالي موسّع يمنح الأقاليم صلاحيات مالية وإدارية واسعة. وتبرز مؤشرات هذا المسار في تصاعد الخطاب الداخلي الداعي إلى الفيدرالية، وانفتاح القوى السياسية على مشاركة الأقاليم في السلطة، وظهور دعم إقليمي لمشروعات إعادة الإعمار والتنمية المحلية، مع تراجع وتيرة المواجهات الميدانية مقابل نشاط تفاوضي ممتد. ويمثل هذا السيناريو المخرج الأكثر واقعية واستدامة إذا اقترن بإصلاح تدريجي للمؤسسة العسكرية ودمج منظم لميلشيات الدعم السريع ضمن هياكل الدولة، غير أنه سيبقى هشًّا في غياب إدارة مركزية قوية قادرة على تحقيق التوازن بين الحكم المحلي والسلطة المركزية.

ختاما:

تكشف السيناريوهات المطروحة لمسار الأزمة السودانية عن مشهد بالغ التعقيد، تتداخل فيه الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية على نحوٍ يجعل كل مسار مفتوحًا على احتمالات التراجع والانفجار في آنٍ واحد. فالتسوية السياسية تظل رهينة بتوازنات هشّة بين القوى المتصارعة، بينما يحمل الحسم العسكري خطر تفكك الدولة، في حين يطرح سيناريو اللامركزية الواقعية احتمال تحوّل السودان إلى بنية تعددية يصعب ضبطها.

المراجع

1_ عبدالله فارس ، الأزمة السودانية: التحديات الداخلية والتغيرات الإقليمية وآفاق الاستقرار ، المركز الدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم ، اغسطس 2025. https://nvdeg.org/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d8%af%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%88/

2_منير، إسلام، “التعريف بالصراع الدولي، مراحله وأساليب إدارته”، المركز الديمقراطي للدراسات السياسية والاستراتيجية، على الرابط: https://democraticac.de/?p=72099

3- هايدي خالد ، “إلى أين يتجه السودان بعد عام من الحرب”، مركز الدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم، يونيو 2024، على الرابط: https://nvdeg.org/إلى-أين-يتجه-السودان-بعد-عام-من-الحرب

4_تنافس بين قوى قبلية يهدد استقرار شرق السودان ،مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 20 يوليو, .2024 https://rawabetcenter.com/archives/176512

 5_ صلاح خليل ، عودة الصراع في دارفور: الأسباب والتداعيات ، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ، 23/12/2021 . https://ecss.com.eg/17925/

6_ ساجدة السيد ، كيف تؤثر أحداث دارفور في إعادة تشكيل المجتمع السوداني ، مركز رع للدراسات الاستراتيجية ، 20  أغسطس 2025.https://rcssegypt.com/22223

7_ عبده مختار موسى ،أثر القبلية في الاستقرار السياسي في السودان (حالــة دارفـور) ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 9مايو, 2019 . https://caus.org.lb/%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84/

8_ د.أماني الطويل ، القبيلة والسياسة في السودان: أبعاد الدور وتداعياته ، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية  ،  17أغسطس , 2022.https://pharostudies.com/%D8%AF-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%84%D9%80-%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%8A%D9%84/

8_ سمير رمزي، https://www.epc.ae/ar/details/scenario/qablanat-alnizae-fi-alsuwdan

 [WU1]هذا يخرجنا عن التركيز على السودان

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version