قامت كل من مصر والسودان بالتنسيق المشترك على المستويين السياسى والعسكرى، وإتخذت كلا البلدين عدداً من القرارات الهامة التى أسهمت ليس فقط  فى تضييق الخناق على النظام الإثيوبى فى ملف سد النهضة، ولكن أيضاً فى جذب وحشد القوى الدولية الفاعلة – بجانب الإتحاد الإفريقى – وإفساح المجال لها للإنخراط فى مفاوضات الأمتار الأخيرة.
لاسيما مع تلاقى مصالح دولتى المصب مع  الأهداف الإستراتيجية للإتحاد الأوروبى والولايات المتحدة التى قامت القاهرة والخرطوم بدعوتهما لرعاية المرحلة الحاسمة من المفاوضات بالإضافة إلى الأمم المتحدة.
تزامن ذلك التطور مع بدء العد التنازلى لموعد الملء الثانى، وتأكيد مختلف المسئولين الإثيوبيين مؤخراً عبر تصريحاتهم المتكررة إعتزام أديس أبابا بدء تنفيذه خلال موسم الفيضان المقبل أى فى شهر يوليو القادم، وهو ما يعنى فنياً البدء فى إتخاذ سلسلة من الإجراءات والخطوات المتتالية اعتباراً من الأسابيع المقبلة.
حيث يسبق عملية الملء المزعومة وجوب فتح بوابات السد أوائل شهر مايو القادم لتصريف المياه المحجوزة من الموسم الماضى تمهيداً لتجفيف القطاع الأوسط للسد، ومن ثم بدء إستكمال بناء وتعلية ذلك القطاع وتركيب التوربينات إستعداداً لحجز المياه الوافدة خلال ذلك الموسم والإعلان عن تنفيذ سياسة الأمر الواقع، بل والإعلان عن إنتهاء فرص سواء المفاوضات أو الحل العسكرى للأبد.
الأمر الذى يفسر توقيع مصر والسودان إتفاق تعاون عسكرى، وإعلان الرئيس السيسى أن أمن السودان من أمن مصر، فضلاً عن زيارة السيد/ الرئيس للخرطوم على رأس وفد رفيع المستوى يوم 6 مارس الماضى.
وزيارة رئيس الوزراء السودانى عبد الله حمدوك للقاهرة يوم 11 مارس الماضى بصحبة العديد من الوزراء بجانب رئيس جهاز الاستخبارات السودانى، ووضوح وصول التنسيق المشترك لأعلى مستوياته، وهو ما عكسه التوصل لعدد من الإتفاقيات التاريخية خلال إجتماعات القاهرة والخرطوم الأخيرة.
وقد لجأ كل من المفاوض المصرى والسودانى لحشد الإتحادين الإفريقى والأوروبى بجانب أكبر قوة دولية وهى الولايات المتحدة فضلاً عن توفير المظلة الدولية للجهود المقبلة (الأمم المتحدة)، ارتباطاً بوجود ستة أبعاد رئيسية، نشير إليها على النحو التالى:
البعد الأول
مصر
آبى أحمد – أرشيفية
يتمثل فى قناعة دولتى المعبر والمصب بإمكانية وضع إثيوبيا خطط زمنية تستهدف التعامل التكتيكى مع الأسابيع المقبلة الحاسمة، وذلك بإستخدام أساليب مختلفة وفق كل مرحلة، منها إمكانية إعلان الموافقة على إستئنافها المفاوضات تحت رعاية الرئيس الحالى للإتحاد الإفريقى (الكونغو الديموقراطية) رغم سابق إعلان رفضها مؤخراً.
ومنها عدم إستبعاد إظهار أديس أبابا قدر من المرونة فى تلك المفاوضات وفقاً لحجم الضغوط – خاصة العسكرية – التى يتوقع أن تزيد كلما إقترب موعد تصريف المياه وراء السد، وذلك بهدف تفويت الفرصة على مصر والسودان وتنفيذ أهدافها، وبالتالى فقد لجأ كلا البلدين لزيادة أوجه ومجالات التنسيق وطرح مبادرة جديدة تعكس فى ظاهرها تمسكهما بخيار التفاوض.
البعد الثانى
يتمثل فى حرص مصر والسودان على إشراك المجتمع الدولى فى التعرف عن قرب على ممارسات الجانب الإثيوبى ورفضه إحترام إلتزاماته القانونية والتاريخية وتورطه المباشر فى تهديد الأمن القومى لشعبى وادى النيل، وتأثيرات ممارساته على العديد من المجالات الإقتصادية والمجتمعية والبيئية وغيرها، بما يوفر المبرر  السياسى اللازم لإضطرار قيادتى البلدين تغيير نهج التعامل لتسوية الملف من خلال الخيار التفاوضى لأسلوب آخر.
البعد الثالث
يشير إلى أهمية الربط المباشر بين مرحلة رعاية دولة جنوب إفريقيا للمفاوضات الفاشلة التى أشرفت عليها خلال رئاستها للإتحاد الإفريقى، والمرحلة الحالية التى ستكون تحت إشراف الرباعية الدولية، وذلك تمهيداً لإحالة الملف للأمم المتحدة فى وقت زمنى قصير إرتباطاً بعامل الوقت الضاغط، ووضع المنظمة الدولية أمام مسئوليتها وفقاً للفصل السابع، وبما يفند بشكل عملى كافة إدعاءات إثيوبيا المتوقعة أمام مجلس الأمن الدولى حال عرض الملف مجدداً عليه، الأمر الذى يزيد أيضاً من حجم الضغوط التى ستفرض على أديس أبابا ، ويستشعرها النظام الإثيوبى من الآن.
البعد الرابع
الرئيس الأمريكى “بايدن” ووزير خارجيته “بلينكين” – أرشيفية
يتمثل فى إطلاع كل من مصر والسودان بشكل غير مباشرلواشنطن – التى تم دعوتها لرعاية المفاوضات المقبلة – على الأسباب والدوافع الحقيقية التى تسببت فى لجوئهما إلى روسيا لتدعيم موقفهما العسكرى، سواء فيما يتعلق بإبرام مصر صفقة طائرات السوخوى الروسية وصعوبة التجاوب مع الضغوط الأمريكية للتراجع عنها، أو الأبعاد الخاصة بإبرام الخرطوم إتفاق يقضى بإقامة روسيا قاعدة عسكرية بحرية تطل على البحر الأحمر تسمح بمقتضاها السودان برسو سفن روسية نووية قرب ميناء بورسودان، وذلك إرتباطاً بتخلى الولايات المتحدة عن دورها فى الحفاظ على المصالح الحيوية لدولتين سبق ترديد العديد من الإدارات الأمريكية المتلاحقة وجود علاقات إستراتيجية مشتركة معهما، الأمر الذى قد يضع إدارة بايدن أمام مسئولياتها التاريخية إن أرادت الحفاظ على مكتسباتها فى المنطقة التى تتطلع موسكو للنفاذ إليها على حساب واشنطن.   
البعد الخامس
ظهر جلياً عقب وضوح وقوف كل من روسيا والصين خلف إثيوبيا وتقديم الدعم السياسى لها، بل وتقديم بكين مزيد من الإستثمارات الموجهة لمشاريع البنية التحتية ومنها خط سكة حديد يربط الدولة الحبيسة بالبحر الأحمر ، وصولاً لإستخدام روسيا والصين لحق النقد “فيتو” يوم 6/3/2021 ضد مشروع قرار يدعو لإنهاء العنف فى إقليم تيجراى الإثيوبى، وضعاً فى الإعتبار تبنى ذلك القرار من قبل الولايات المتحدة وبعض دول الإتحاد الأوروبى المعنية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، أيرلندا).
 وقد عكس الفيتو المزدوج إضطرار القوى الدولية الداعمة لإثيوبيا (روسيا – الصين) للكشف عن وجههما الحقيقى، وذلك عقب تراجع الدول الإقليمية (قطر – تركيا – إسرائيل.. ) عن دعمها التقليدى غير المباشر لإثيوبيا لأسباب مختلفة تتعلق أغلبها بإعادة المنطقة ترتيب أولوياتها وأهدافها مرحلياً، وفى هذا الإطار فقد يضع التمترس الروسى / الصينى الأخير وراء إثيوبيا القوى الغربية أمام مسئولياتها حال أرادت الحفاظ على مصالحها الحيوية بالمنطقة، وقد يدفع تلك القوى للإنخراط فى مفاوضات سد النهضة وممارسة ثقلها من خلال الرباعية الدولية.
البعد السادس
وزير الخارجية المصرى ونظيرته السودانية – أرشيفية
يأتى فى ضوء بدء تبلور واقع جديد يشير إلى الإتجاه السريع نحو تغير مركز الثقل فى منطقة شرق إفريقيا تدريجياً خلال المرحلة المقبلة من إثيوبيا التى دخلت نفق الإضطرابات الداخلية والتطهير العرقى وبدء مخطط آبى أحمد ونظامه الرامى للتغيير الديموجرافى للعرقيات عبر مخططات فوضوية متتالية خلال العقد الحالى، وتوقع إنتقال مركز الثقل إلى السودان الجديد الواعد بمقدراته وموقعه المطل على البحر الأحمر والساعى للعودة للمجتمع الدولى عقب فترة من العزلة الدولية، لاسيما مع توقع التأثير الإيجابى لحسابات القوة الشاملة لكل من مصر والسودان نتيجة ما ظهر من وجود إرادة حقيقية للبلدين تدفع فى إتجاه الشراكة الإستراتيجية خاصة  فى مجال تسوية ملفات الأمن القومى.
ولاشك أن تزايد معدلات التقارب السياسى والعسكرى بين مصر والسودان بجانب ظهور خطط تنموية إستراتيجية بين البلدين ( الإتفاق على مشاريع مشتركة فى مجال الطاقة والسكك الحديدية والزراعة وحرية التنقل بجانب التنسيق الأمنى والعسكرى) من جهة، وتبنى الجانبين المبادرة الخاصة برعاية الرباعية الدولية للمفاوضات المقبلة من جهة أخرى، قد أربك حسابات النظام الإثيوبى الذى يعانى من تعدد الجبهات الداخلية وتنوعها، ويواجه فى الوقت ذاته صعوبات لإقناع عرقية الأمهرة لتأجيل إظهار أطماعهم فى الآراضى السودانية لمرحلة لاحقة للحيلولة دون زيادة التوتر مع شعب ونظام السودان لإستكمال مخطط إستيعابه لحين تنفيذ الملء الثانى.
 ويتزامن ما سبق، مع تزايد حجم الإنتقادات والإتهامات الدولية للنظام الإثيوبى الخاصة بممارسة قواته – بجانب الجيش الإريترى – إنتهاكات ممنهجة بحق المدنيين بإقليم تيجراى، وإنضمام الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومنظمة هيومن رايتس لتلك الحملة لأول مرة منذ إندلاع أعمال العنف فى شهر نوفمبر الماضى، وضعاً فى الإعتبار زيادة الإتحاد الأوروبى العقوبات الإقتصادية التى سبق أن فرضها على إثيوبيا من 70 مليون يورو إلى مائة مليون يورو يوم 11 مارس الماضى بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية المصرى سامح شكرى لبروكسل.
ولكن كيف تجذب المبادرة المصرية / السودانية أصحاب المصالح الإستراتيجية من القوى الغربية ، للإجابة على هذا السؤال الإفتراضى، يجب الإشارة إلى حجم المصالح التى يمكن أن يحققها كل من الإتحاد الأوروبى والولايات المتحدة المدعوين للمشاركة فى تسهيل عملية التفاوض مع الجانب الإثيوبى، وهو ما يمكن إيجازه فى النقاط الرئيسية التالية:
النقطة الأولى: إبعاد واشنطن السودان عن روسيا التى لتعزيز تمركزها بالبحر الأحمر، لاسيما عقب نجاحها فى تثبيت قواعدها البحرية والجوية بالبحر المتوسط من خلال تواجدها بسوريا بجانب وضع إحدى أقدامها بليبيا، وهو ما قد يؤدى إلى إستكمال الحلقة الروسية المفقودة لربط أسطولها البحرى الممتد من المحيط الهندى قبالة السواحل الصومالية جنوب مضيق باب المندب والمتواجد تحت دعوى مكافحة القرصنة، إلى البحر الأحمر مروراً بميناء بورسودان، وصولاً للبحر المتوسط، ومنه إلى البحر الأسود حيث تكتمل سيطرة الدب الروسى على أحد أهم المناطق الإستراتيجية.   
النقطة الثانية: توفير المناخ الملائم لإستكمال الولايات المتحدة خطط جذب السودان نحو واشنطن، خاصة عقب تنازل الأخيرة عن العديد من كروت الضغط للنظام الإنتقالى السودانى الحالى، ومنها رفع إسم السودان من قوائم الدول الداعمة للإرهاب وتسديد ديونها لدى البنك الدولى فضلاً عن منح الخرطوم قرضاً جديداً ليتجاوز مجمل ما سبق مليارين من الدولارات.
النقطة الثالثة: تتمثل فى تشجيع الولايات المتحدة للسودان نحو تنفيذ إتفاق السلام المبرم مع إسرائيل والعمل على بدء عملية التطبيع، وضعاً فى الإعتبار تكرار إعتذار الخرطوم عن إستقبال بعض كبار المسئولين الإسرائيليين منذ الإتفاق والإكتفاء ببعض اللقاءات الرمزية. 
النقطة الرابعة: التى ستسعى الإدارة الأمريكية لتحقيقها من خلال إنخراطها فى الوساطة المرتقبة لملف سد النهضة هى إستعادة وتدعيم نفوذها بالمنطقة لإبعاد الصين ومشروعها الخاص بطريق الحرير سواء عن منطقة قناة السويس أو الموانىء السودانية المطلة على البحر الأحمر، وحتى عن مشروع إنتاج الطاقة التى تستهدف إثيوبيا إنشاؤه عبر السد، الأمر الذى قد يدعو البنك الدولى التابع للولايات المتحدة لتبنى طرح يدعو لإعادة الدراسات الفنية للسد لتعظيم حجم الإستفادة الجماعية منه ويحفظ لأديس أبابا ماء وجهها وحقوقها التنموية.  
النقطة الخامسة: توافق المصالح الأمريكية مع المصالح الأوروبية المتمثلة فى وصول  الطاقة الناجمة عن سد النهضة لدول الإتحاد الأوروبى عبر السواحل الشمالية للقارة الإفريقية، للحيلولة دون سيطرة روسيا التى تمد الإتحاد الأوروبى بأغلب إحتياجاتها من الطاقة وإستمرار حجم الضغوط الإقتصادية التى يمارسها بوتين على الحليف الأمريكى، ذلك بالتوازى مع المساعى المصرية الرامية لتكون مركز إقليمى للطاقة.
وبتقييم مجمل الأبعاد والتطورات المتلاحقة، نجد أن مختلف التحركات السابقة لا يمكن أن تؤتى ثمارها دون العمل بالتوازى على تحييد دولتى المعبر والمصب للقوى الإقليمية المناهضة ( إسرائيل – تركيا – بعض دول الخليج ) التى إستثمرت إنشغال كل من مصر والسودان فى تسوية ملفات داخلية وإقليمية أخرى ذات أولوية آنية، وقدمت مختلف أوجه الدعم للجانب الإثيوبى لتشديد الضغوط على نظامى البلدين، وهو ما دفع كل من القاهرة والخرطوم لإنتهاج سياسة إحتواء لتلك القوى واللجوء لبعض المواءمات الضرورية للمرحلة الحالية وسط أجواء تفرض إعادة ترتيب علاقات دول المنطقة وفق مصالح معقدة.
الخلاصة
وفى النهاية، يجب أن نشير إلى وجود العديد من العوامل الإضافية التى يمكن أن تقوض تلك الجهود، وهو ما يعزز أهمية إحتفاظ دولتى المصب بعلاقات طيبة سواء فيما بينهما أو مع المجتمعين الإقليمى والدولى، وقدرتهما على توظيف المصالح المتبادلة مع القوى الدولية، والتحرك فى حدود أدوات الضغط المتاحة، وضعاً فى الإعتبار وجود عنصر ضاغط وهو عامل الوقت المتاح للتوصل إلى إتفاق يضم العديد من التفاصيل الخلافية فى المجالات الفنية والقانونية والبيئية، خاصة مع إنعدام الثقة وظهور مشاكل وأطماع حدودية، الأمر الذى يتوقع معه إكتفاء جهود الوساطة الدولية حال تفعيلها على نقطة واحدة هى عدم إقدام إثيوبيا على الملء المنفرد هذا الموسم وإرجاء مختلف التفاصيل لحين إبرام إتفاق ملزم يتضمن صفقة توافقية برعاية دولية وفق معايير فنية وإقتصادية تحقق مصالح كافة الأطراف.  
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version