جاءت إجابة الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة “بايدن” عن إستفسارات العديد من المراقبين الدوليين المعنيين بالتعرف على موقف حاكم البيت الأبيض الوافد بخلفيته الديموقراطية من بعض الملفات المتعلقة بالشأن المصرى، والتى يعد من أهمها ملف “سد النهضة”.
ورغم عدم صدور أى موقف أو تصريح أمريكى مباشر حول هذه القضية، إلا  أن تزامن تمرير الولايات الأمريكية صفقة السلاح لمصر، مع إصدار الإدارة الأمريكية قراراً آخر يقضى برفع العقوبات الإقتصادية عن إثيوبيا التي تقدر بنحو ٢٧٢ مليون دولار، يعكس العديد من الدلالات التى يمكن معها الإستشراف المبكر لبعض السياسات والتوجهات الأمريكية المزمعة تجاه تلك الأزمة التى تتسم بقدر كبير من الحساسية، خاصة مع وصولها لمنحنى ينذر بالصدام، وتطلع بعض الأطراف لتدخل واشنطن لنزع فتيل الأزمة فى ظل تسرب الوقت باعتباره عنصر ضاغط.
مصر
الرئيس الأمريكى السابق – صورة أرشيفية
صفقة السلاح ورفع العقوبات
بداية يجب التسليم بوجود العديد من الاعتبارات والأبعاد المتعلقة بالموافقة على صفقة السلاح الأمريكية لمصر، لسنا بصدد مناقشتها الآن، ولكننا هنا نشير إلى مدلولها وتزامنها مع رفع العقوبات الأمريكية عن أديس أبابا، التى سبق أن فُرضت خلال حكم الرئيس السابق ترامب، وما صاحبته من جدل لاسيما فى ظل قيادة ترمب الشخصية لجهود وساطة بين دولة المنبع ودولتى المعبر والمصب مصر والسودان، وإستضافة واشنطن لعدة جولات توجت بالتوصل لاتفاق بين الأطراف الثلاثة وتحول الموقف الأمريكى من إثيوبيا بشكل تدريجى عقب الانسحاب المفاجىء للأخيرة من التوقيع على الاتفاق واتهام أديس أبابا لواشنطن بممارسة ضغوط عليها، رغم ما تردد عن تقديم الولايات المتحدة لإثيوبيا الضمانات اللازمة بجانب بعض الحوافز.
الأمر الذى أدى إلى تغيير ترامب لنهج التعامل مع رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد ،وصولاً لتصريحات ترامب التى ألمح فيها إلى تفهمه إمكانية إقدام مصرعلى توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة، وهو ما أثار حالة من الجدل والتوتر بالداخل الإثيوبى، بل وأفقدت ترامب أى فرصة لاستعادة دور الوساطة بين الأطراف المتنازعة حال فوزه بولاية ثانية.
الرئيس الامريكى – أرشيفية
رؤية الإدارة الأمريكية الجديدة
ومن هنا جاء حرص بايدن على إتخاذ بعض الإجراءات السريعة والمتنوعة، التى سعى من خلالها لممارسة بعض الضغوط بالتوازى مع تقديم حزمة من الحوافز المتنوعة في محاولة لإستعادة واشنطن قدر من الثقة لدى أطراف الأزمة الثلاث “مصر والسودان وإثيوبيا”، للإمساك مجدداً بأحد أهم الملفات التى يمكن أن تحقق العديد من المكاسب الإستراتيجية للإدارة الحالية بالمنطقة والتى سنشير إليها لاحقاً.
حيث إتخذ فى هذا الإطار قرارات مباشرة وأخرى غير مباشرة وقرارات سياسية وأخرى إقتصادية، بالإضافة لقرارات عسكرية إيجابية تجاه مصر، أعقبها تصريحات أخرى سلبية مغلفة بالتهديد تجاه نفس الدولة والتى طالبت خلالها واشنطن القاهرة بالتراجع عن صفقة الطائرات الروسية من طراز “سوخوى”.
آبى أحمد – أرشيفية
ما يتعلق بإثيوبيا ..
 وفيما يتعلق بإثيوبيا ، فقد سبق قرار رفع الإدارة الأمريكية العقوبات الاقتصادية المفروضة على إثيوبيا، ظهور عدة مواقف أمريكية أخرى لا يمكن تجاوزها رغم أن بعضها قرارات غير مباشرة، حيث قامت الإدارة الحالية بغض الطرف عن الإنتهاكات والممارسات التى ارتكبها الجيش الفيدرالى الإثيوبى بحق المدنيين بإقليم تيجراى.
وفى المقابل رهنت واشنطن عودة المساعدات الإقتصادية بإنهاء الأزمة فى تيجراى، وذلك عكس إدارة ترامب التي كانت تبدو متشددة مع آبى أحمد ظاهرياً فى حين لم تمارس أى ضغوط حقيقية عليه خلال تفاقم أزمة تيجراى وما صاحبها من إنتهاكات.
 وقد جاء تغافل الإدارة الأمريكية السابقة والحالية أيضاً، رغم مطالبة الولايات المتحدة الجيش الإريترى بالإنسحاب من إقليم تيجراى والكف عن إرتكاب المجازر والتجاوزات  بحق المدنيين رغم عدم توجيه الحكومة الإثيوبية نفسها أية انتقادات للجانب الإريترى، وبالإضافة لما سبق إتخذت إدارة بايدن قراراً آخر غير مباشر من خلال عدم توجيهها أى انتقاد أو إصدار تصريح سواء بشأن الاختراقات المتكررة للجيش الإثيوبى وميليشيات الأمهرة للحدود السودانية ، رغم  إفصاح إثيوبيا صراحة عن وجود أطماع فى منطقة الفشقة السودانية.
وقد جاءت مجمل الإشارات الأمريكية المباشرة وغير المباشرة للجانب الإثيوبى متزامنة مع بعض الانتقادات الموجهة لمصر فى ملف حقوق الإنسان والحريات، الأمر الذى تلقى معها آبى أحمد الرسالة التى تلمح  لإنتهاء مرحلة التقارب بين مصروالولايات المتحدة التى تميزت نسبياً خلال فترة ترامب خصماً من الرصيد الإثيوبى ، بما يمهد لتوفير المناخ الملائم من وجهة النظر الإثيوبية لاستعادة الولايات المتحدة لدور الوساطة فى ملف سد النهضة الذى فقدته.
على المستوى السودانى ..
وقع وزير الخزانة الأمريكى بالخرطوم يوم ٢٠/٢/٢٠٢١مذكرة تفاهم مع وزيرة المالية السودانية بشأن تقديم قرضاً أمريكياً قيمته مليار دولار لسداد متأخرات الخرطوم المالية للبنك الدولى، بما يمكن السودان من الحصول على تمويل سنوى يقدر بنحو  مليار ونصف المليار دولار آخرين سنوياً فى إطار دعم خطة الحكومة الإنتقالية السودانية التنموية.
الأمر الذى يسهم فى فتح آفاق التمويلات الدولية الأخرى أمام العديد من المشاريع الواعدة المجمدة، وذلك بالتوازى مع توقيع وزير الخزانة الأمريكي “إتفاق إبراهام” المعنى بالتعايش السلمى بين الأديان بمنطقة الشرق الأوسط.
الرئيس المصرى “عبدالفتاح السيسى” – أرشيفية
على الجانب المصرى ..
 تلقت الإدارة الأمريكية الإشارات المصرية الخاصة بالترحيب بإستئناف دور الوسيط عقب  طلب السفارة المصرية بواشنطن قيام الولايات المتحدة بدور لتسهيل تلك المفاوضات، وهو ما عززه  حالة الإرتياح التى شعرت بها القاهرة عقب تمرير صفقة السلاح الأمريكية الأخيرة، وضعاً في الإعتبارحرص إدارة بايدن على إحتواء الموقف وعدم تفاقم الأزمة بالنظر لتزايد حجم الضغوط المفروضة على مصر وإضطرارها للجوء للحل العسكرى نتيجة قرب موعد الملء الثانى لسد النهضة وتعرض الأمن القومى المصرى لتهديد ملموس.
 ولكن يجب هنا الإجابة على السؤال الذى يطرح نفسه، وهو لماذا تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة للقيام مجدداً بدور فى هذا الملف رغم سابق فشل الإدارة الجمهورية فى تسويته؟ فلا شك أن إنخراط واشنطن فى إدارة تلك الأزمة_ وليس فى حلها_ يحقق لها العديد من الأهداف، منها حرمان القوى الإقليمية الساعية لممارسة هذا الدور (تركيا – السعودية) من تنفيذ أجندتها بالمنطقة على حساب الأهداف الأمريكية.
كذا حرمان أى من القوى الدولية الفاعلة (روسيا – الصين) من إستغلال تلك الأزمة فى ترسيخ وجودها بالمنطقة، وضعاً فى الاعتبار سابق إعراب موسكو  خلال إستضافتها القمة الإفريقية الروسية بمدينة سوتشى عن إعتزامها القيام بدور الوسيط لتسوية ذلك الملف، وتوقيع روسيا  مع المجلس السيادى الحاكم فى السودان إتفاق يقضى بإقامة الجيش الروسى قاعدة بحرية قبالة السواحل السودانية بالبحر الأحمر.
 فضلاً عن عدم استبعاد الولايات المتحدة إستغلال الصين للأزمة الحالية لتعزيز وضعيتها بالقرن الأفريقى، فى ظل حجم الإستثمارات الصينية بإثيوبيا ووجود علاقات مميزة مع مصر، ورغبة بكين فى إستغلال أزمات المنطقة لتنفيذ أجندتها الخاصة بنفاذ طريق الحرير للعمق الإفريقى عبر المدخل الشرقى للقارة.
الخلاصة
ولكن يبقى السؤال الأهم، عن الهدف الحقيقى الذى تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه من تلك الخطوات التكتيكية، التى بدأت بإتخاذها خطوات محسوبة ومحددة وسريعة ومتناقضة أحياناً من كل أطراف الأزمة للإمساك بخيوطها من جديد وبشكل منفرد بعيداً عن أى من القوى الإقليمية (بما فيها تركيا والسعودية والإمارات وروسيا والصين وحتى إسرائيل).
 فهل سيسعى بايدن جاهداً لحل الأزمة الراهنة وتقريب وجهات نظر الأطراف المتصارعة حول أحد أهم الملفات المصيرية التى قد تؤثر فى مصير شعب وادى النيل؟ أم سيتظاهر بذلك، بهدف إستهلاك مزيد من الوقت وممارسة أكبر قدر من الضغوط القادمة من الإدارة الديموقراطية على مصر؟ وبالتالى إطالة أمد الأزمة وإنفراد الولايات المتحدة بإداراتها، وليس بتسويتها أسوة بالعديد من الملفات التى تديرها واشنطن بالمنطقة منذ عدة عقود، الأمر الذى يجب أن تستعد الإدارة المصرية الحكيمة  له جيدا،ً بالعديد من السيناريوهات وعدم الإرتكان أو الرهان على الدور الأمريكى المرتقب كحل وحيد.       
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version