الجزء الأول: “محددات ومنطلقات بناء النفوذ الجيوشيعى” ..
أولا: المحددات
تنطلق استراتيجية إيران لبناء النفوذ الجيوشيعي على محددات ومنطلقات عدة أهمها: محددات تاريخية، ومنطلقات نظرية، ومحددات قيمية. نتناولها بإيجاز على النحو التالي:
1. المحددات التاريخية:
من المعلوم أن الدولة الصفوية (1501 – 1736م) فرضت المذهب الإثنى عشري مذهبًا رسميًا لإيران، منذ عام 1501م، وهو الأمر الذي يُعد نقطة تحول في تاريخ هذا البلد منذ الفتح الإسلامي؛ ليس لأنها أرغمت أبناء الأمة الإيرانية ليتحولوا عن مذهبهم الشافعي إلى المذهب الشيعي، وحسب. بل لأن الحكم الصفوي أسفر عن تطور مذهبي مهم مفاده جواز قيام سلطة حكم شيعية في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، ولكن مع خضوع تفاعلات هذه السلطة لمعايير الاجتهاد. كما انطوى أيضا على تطور آخر نقل المجتمع إلى زاوية المجتمعات الدينية المنغلقة على مجموعة من القيم المذهبية النقلية المتوارثة عبر الأجيال بلا جرح أو تعديل.
وفي ظل هذا التطور المذهبي والاجتماعي، تكونت، بمرور الزمن، طبقة عريضة من الفقهاء الذين نجحوا في تشكيل مؤسسة معنية بتكوين مجتمع مذهبي متكامل، وتقوم بدور اجتماعي عزز علاقاتهم بجميع طبقات المجتمع وفئاته باستثناء علاقتهم بالعسكريين، التي كانت، في مراحل مختلفة، تتسم بالتوتر تارة والصدام تارة أخرى. خاصة بعد انقلاب عام 1921م، بزعامة رضا بهلوي وتوليه العرش عام 1925م، وصولا إلى قيام الثورة الإسلامية عام 1979م.
غير أن الفقهاء اتخذت من هذه الثورة منطلقا لاستحداث طبقة عسكرية حليفة تختصهم بالولاء والطاعة، هي الحرس الثوري، ومنذ ذلك الوقت امتلك الفقهاء والعسكريون الجدد الدور الحاسم في تحدد شكل ومضمون الدولة الإيرانية، ومن ثم تصوراتها الاستراتيجية، وآليات المحافظة على تعزيز دورها الخارجي نفوذها الإقليمي. ونظرا لأهمية كلتا الفئتين الفقهاء (المؤسسة الدينية) والعسكريين (المؤسسة العسكرية) في بناء النفوذ الجيوشيعي، سوف نلقي الضوء بإيجاز عليهما على النحو التالي:
إيران
المرشد الأعلى للثورة الإيرانية – أرشيفية
الفقهاء (المؤسسة الدينية)
في إطار مساعي الدولة الصفوية لخلق كيان شيعي متماسك يكبح طموح الدولة العثمانية السنية للهيمنة على إيران، تمكن الفقهاء، المزودين بالموروث الفكري، من خلق مرجعية دينية، اكتسبت، بمرور الوقت، طابع المؤسسة المستقلة اقتصاديا سواء في النجف وكربلاء أو قم، التي تحولت إلى حوزات علمية تهيئ لبروز فقهاء أقوياء وقيمون على موارد الحوزة العلمية المالية، التي تتمثل في رصيد ضخم ومتراكم عبر السنين من الأوقاف الموقوفة على المساجد والمدارس والأضرحة والمزارات الشيعية، فضلا عن أنصبة الزكاة وأموال الخمس والتبرعات والنذور التي توجد في صناديق المزارات الكثيرة.
ومن ناحية أخرى، دفعت الظروف السياسية التي سادت أواخر القرن التاسع عشر، الفقهاء لأن يتخطون دورهم الديني إلى القيام بدور سياسي، وهو الأمر الذي خلق نوعا من ازدواجية القيادة في الدولة؛ نظراً لأن القيادة المعترف بها في المجتمع الشيعي ترتبط بالإمام (السلطة المذهبية) وليس برئيس الدولة (السلطة السياسية) وهذا ما كان يشكل معضلة لأي مسئول؛ لأنه يصبح ولياً لرعايا لا يقلدونه ولا يعطونه زمام أمورهم.
وقد جسدت هذه الازدواجية فتوى ميرزا شيرازي بتحريم تعاطي التبغ بكل صوره وأشكاله، عام 1891م، التي ألغت مرسوما ملكيا لـ ناصر الدين شاه قاجار (1848– 1896م) منح بمقتضاه امتياز استغلال التبغ لإحدى الشركات الأجنبية، وهو ما يعرف في الأدبيات الإيرانية بثورة التبغ. وبناء على هذه الازدواجية كانت السلطة السياسية تنظر دائما بعين الغيرة والحسد إلى نفوذ كبار الفقهاء، لا سيما إمكاناتهم المالية الكبيرة، في وقت كانت خزينة الدولة تعاني عجزاً مستمراً، خاصة قبل ظهور الموارد النفطية الضخمة فيما بعد.
ثم وصل دور الفقهاء السياسي إلى طور التقنين، إبان قيام الثورة الدستورية (1906م) إذ نص الدستور على تشكيل لجنة خماسية عليا بمجلس النواب، من كبار الفقهاء، للنظر في كل تشريع يصدره المجلس، قبل أن يتخذ صيغته النهائية وفقا للشريعة الإسلامية.
بين الكمون والانطلاق
شهد دور الفقهاء انحسار ملموسا طيلة العهد الپهلوی (1925– 1979م) نظرا لانتهاج الدولة عمليات تحديث واسعة، شيدت خلالها المؤسسات العلمية والتعليمية الحديثة، من مدارس ومعاهد وجامعات، اعتمدت مناهج تعليمية متطورة، واستهدف تعميق البعد القومي والاقتداء بالحداثة الغربية وتحجيم التعليم الديني، وإفساح المجال لدخول قيم جديدة ومتطورة بالمجتمع. كما شملت عمليات التحديث سلسلة من التشريعات التي أدت إلى تقلص دور الفقهاء في السلطة القضائية.
ولكن ذلك لم يحل دون بروز دور الفقهاء أثناء القضايا الكبرى، فشارك آية الله كاشاني الدكتور محمد مصدق قيادة عملية تأميم النفط (1951م) وكان بإمكانه تحريك الآلاف من المتظاهرين بشوارع إيران في وقت وجيز. كذلك قاد آية الله خميني انتفاضة شعبية (1963م) عُرفت بـ انتفاضة 15 خرداد ضد برنامج الشاه الإصلاحي الثورة البيضاء؛ والتي تعد الصدام الأضخم الذي وقع بين السلطتين الدينية والسياسية. كما تمثل منعطفا تاريخيا دفع المؤسسة الدينية إلى العمل السري المناهض للشاه، حتى استطاعت في النهاية قيادة أضخم إحياء شيعي على الإطلاق منذ قيام الدولة الصفوية أطلق عليه الثورة الإسلامية (1979م).
الجنرال حسين دهقان – أرشيفية
العسكريون (المؤسسة العسكرية)
كان وضعهم، خلال العهد القاجاري (1779 ـ 1925م)، تجسيدا لمدى الضعف الذي كانت تعانيه إيران؛ إذ لم تكن القوات الإيرانية تعدو كونها مشروعا حكوميا صغيرا أو امتيازا أجنبيا. وكانت هذه القوات من الضعف، أن فشلت في حماية النظام القاجاري، بل إن فرق القوزاق، بقياده رضا پهلوي، هي التي قادت أول انقلاب عسكري في تاريخ إيران، عام 1921م، والذي كان يمثل نقطة تحول في تاريخ العسكرية الإيرانية، نظرا لأن الدولة اتخذت كل الإجراءات التي أدت إلى تأسيس جيش وطني محترف وحديث، ففرضت التجنيد الإلزامي وأنشأت الكليات العسكرية وقيادة الأركان وتأسيس القوات الجوية والبحرية.
ومع هذا، تعرض هذا الجيش الوليد، لأزمة كبرى باجتياح قوات الحلفاء إيران، عام 1941م، خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنه تمكن من القضاء على محاولة انفصال أذربيجان وكردستان (1946م) كما نجح أيضا في الحفاظ على تماسك النظام الپهلوي، خلال أزمة تأميم النفط (1953م) ولكن ما لبث أن تعرض لمتغير خطير؛ بفعل المعاهدات التي أبرمها الشاه مع واشنطن، خاصة معاهدة 1959م، التي حصرت دوره في حماية المصالح الأمريكية داخل إيران وبمنطقة الخليج العربي كلها. وفي هذا الإطار، قام باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث (1971م) ونزل إلى عُمان (1973م) بدعوة من السلطان قابوس للقضاء على ثورة ظفار.
ونظراً للدور الذي لعبته المؤسسة العسكرية في الحفاظ على العرش الپهلوي وتعزيز دور إيران الإقليمي، سعى الشاه إلى تعظيم قدراتها، حتى أصبحت تمتلك، آنئذ، أضخم قوة بحرية بمنطقة الخليج العربي وأحدث وأقوى قوة جوية بالشرق الأوسط. كما تضخم جهاز الساواك، الذي كان له دور مهم في مراقبة الاتحادات العمالية والإدارات الحكومية وجميع تيارات المعارضة وكل أنشطة المؤسسة الدينية. وعلى الرغم من كل هذا، لم تستطع المؤسسة العسكرية تأمين العرش الپهلوي أمام الثورة الشعبية، التي قادتها المؤسسة الدينية عام 1979م.
تلك الثورة التي أحدثت تغييراً جذريا في هيكل السلطة لصالح الفقهاء، وصاغت الحياة السياسية الاقتصادية والاجتماعية في ضوء مفهومها الخاص لولاية الفقيه السياسية، وحسمت ازدواجية السلطة بين الفقيه والسلطان، وأنشأت جيشا موازياً يؤمن بالولاء المطلق للولي الفقيه، ويسهر على حماية إسلامية الثورة في الداخل، ويدعم دور إيران الخارجي ونفوذها الإقليمي.
2. المنطلقات النظرية:
ترتبط استراتيجية إيران لفرض نفوذها الجيوشيعي بنظام ولاية الفقيه، الذي أفرزته الثورة الإيرانية (1979م) وبرؤية آية الله خميني لحل مسألة الولاية الزمنية في ظل غيبة الإمام الثاني عشر، التي قالت بأن الفقيه هو المنوط بهذه الولاية، نيابة الإمام الغائب. على أن يكون مستوفيا لشروط العدالة والعلم والعقل والبلوغ. وألا تقتصر ولايته على منصبي القضاء والإفتاء، وإنما تكون ولاية هذا الـ فقيه ولاية عامة، بما فيها الحكم وولاية أمر الناس.
وقد دلل أية الله خميني على شمولية ولاية الفقيه بأدلة نقلية استند فيها إلى آيات قرآنية مؤولة وأحاديث ذات رواية شيعية، إضافة إلى أدلة أخرى متواترة عن الأئمة الاثني عشرية، تعطي أحقية الولاية العامة للفقيه. كما دلل عليها أيضا بأدلة عقلية تدخلها في باب الضرورة، أي ضرورة وجود حكومة تطبق شرع الله، أثناء فترة غياب المهدي المنتظر. وأن الفقهاء، باعتبارهم حملة هذا الشرع، هم أقدر الناس على القيام بهذه المهمة. ناهيك عن أن العقل يحتم على الفقهاء العدول أن يتحينوا الفُرص لتشكيل حكومة تتولى تنفيذ أوامر الله وشريعته.
الخمينى – صورة أرشيفية
منطق ولاية الفقيه
ويقوم منطق ولاية الفقيه في الفكر الشيعي على أن مبدأ الحاكمية لله تعالى، وأن حاكمية الله على الأرض مستمدة منها في ثلاثة امتدادات، هي: النبوة والإمامة، وولاية الفقيه. وأن امتداد النبوة جاء بـ النص، وجاء امتداد الإمامة جاء بـ العصمة، أما امتداد ولاية الفقيه فقد جاء بـ المنزلة. أي أن النبوة منصوص عليها بالاسم ومعصومة ويوحى إليها، والإمامة منصوص عليها بالاسم ومعصومة أيضاً، ولكن لا يوحى إليها، أما ولاية الفقيه فلا نص عليها بالاسم ولا هي بمعصومة أيضا، إلا أن مواصفاتها وشروطها مثبتة في سنة “المعصومين”.
وبعبارة أخرى، يرى فقهاء الشيعة، وعلى رأسهم الخميني، أن النبي هو حامل الرسالة من السماء باختيار الله له ونزول الوحي عليه، وأن الإمام هو المستودع لهذه الرسالة ربانياً، بمعنى أن النبي والإمام مُعيّنان من الله تعالى تعييناً شخصياً. أما الفقيه الولي فهو مُعيّن تعييناً وفق شروط عامة، تتأكد الأمة من انطباقها عليه من عدمه إلى الأمة نفسها. وبناء على هذا، رأي فقهاء الشيعة أنه نظراً لاستمرار غيبة الإمام الثاني عشر، فقد بدأت المرحلة التالية للإمامة وهي مرحلة النيابة العامة التي تتجسد في ممارسة الفقيه للولاية على جميع المجالات التي كان يمارس فيها الإمام المعصوم ولايته.
وهو الأمر الذي طبقته الثورة الإسلامية التي اكتسب بدورها الولي الفقيه خصائص سياسية، منها:
1-أنه زعيم للمستضعفين في الأرض.
2-أنه زعيم الثورة الإسلامية في إيران.
3-أنه المرجعية الدينية والسياسية معاً، نيابة عن إمام الزمان.
كما اختص الدستور الإيراني الولي الفقيه بقمة هرم السلطة في البلاد وبمكانة تعلو الدستور نفسه؛ نظرا لأنه الولي المُخوّل بتحديد السياسات العامة، والوصاية على السلطات الثلاث، وجميع مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والأمنية، وغيرها من المؤسسات الأخرى، لا سيما التي تضطلع بنشر المذهب الشيعي في العالم، مثل مؤسسة الشهيد، ورابطة الثقافة والاتصال الإسلامي، والمنظمة العالمية للحوزات والمدارس الإسلامية، ومؤسسة الدعوة الإسلامية، مؤسسة المستضعفين، وهيئة الأوقاف والشئون الخيرية، وجامعة المصطفى العالمية، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، والمجمع العالمي لأهل البيت، ومؤسسة العتبات الرضوية.
وبهذا تكون الثورة الإيرانية قد جعلت من القراءة الشيعية للإسلام وتفسيره الراديكالي، مكوناً جوهرياً لهياكل الدولة ومؤسساتها ولبنية المجتمع الإيراني ومكوناته، بل وتشكيل المبادئ التي تعتمدها في علاقاتها الخارجية. الأمر الذي كان له بالغ الأثر في نجاح إيران في بناء نفوذها الجيوشيعي؛ تمهيدا لعودة الإمام الغائب.
الدستور الإيرانى – أرشيفية
3. المحددات القيمية:
قدمت الثورة الإيرانية مجموعة من القيم الخاصة التي كرست هويتها الطائفية، واتخذتها غطاء لتمددها الخارجي، اعتمادا على أساليب وطرق متعددة لإقناع المسلمين بها، ومن بينها استخدام عدد من الشعارات التي استهدفت مجرد ملء الفراغ السياسي في المنطقة، من قبيل: الله أكبر ـ الموت لأمريكا ـ الموت لإسرائيل ـ اللعنة على اليهود، إضافة إلى استخدام مجموعة من المصطلحات الخاصة ذات الدلالة الدينية، وتعكس مفاهيم ولاية الفقيه، مثل: الاستضعاف، والاستكبار، والاستشهاد، والوحدة، والتقريب؛ التي استدرجت الرأي العام الإسلامي إلى نقطة الإيمان بأهداف إيران السياسية وتصوراتها الاستراتيجية.
وقبل أن نعرض لهذه القيم، يتعين علينا أن نشير إلى أن فقهاء الثورة عمدوا إلى تفكيك مفهوم الإسلام الذي يؤمن به مسلمو المعمورة؛ ليقدموا للعامة تعريفا انتفاضيا له. إذ وصم آية الله خميني إسلام أهل السنة بـ الإسلام الأمريكي ووصفه بـ إسلام الرفاهية والمظهرية، وأنه لا يعتنقه إلا أهل الدعة والاستكبار والظلم، خاصة الذين أبرموا صلحا منفردا مع إسرائيل. بينما وصف إسلام الشيعة بـ الإسلام المحمدي الأصيل الذي هو في نظره إسلام المحرومين والمستضعفين والمظلومين. وانطلاقاً من هذا المفهوم الخاص، دعا الخميني جموع الشيعة إلى مقاومة النظم السياسية الظالمة المهيمنة على العالم.
نُصرة المستضعفين في الأرض
عبارة قيمية تسهم في رسم الصورة الذهنية لجمهورية إيران “الإسلامية” على المستوى الداخلي والخارجي. إذ باتت كلمة مُستضعف من المفردات التي شاع تداولها في إيران، منذ قيام الثورة، مكتسبة حقلاً دلالياً مفعما بالحيوية الثورية، لم يعد معه المستضعف مجرد مسكين مهيض الجناح يكابد الظلم والحرمان، بل أصبح متمتعا بالوعي الثوري اللازم، ومواليا للجمهورية الإسلامية ونصيرها، وفضلا عن كونه متحفزا لمقاومة الظلم والاستكبار. وفي هذا السياق نجحت الثورة في تكوين طبقة الاجتماعية واسعة من الفقراء والمحرومين والمظلومين ليكونوا بمثابة الظهير الشعبي المتحفز دائما لحماية نظام الثورة.
ومن ثم أقنعت الثورة مستضعفي الداخل بأنها منحازة لهم ومُصرّة على الاحتفاظ لهم بمكانة خاصة بالمجتمع. ومن ثم نجحت في تحويلهم إلى درع شعبي لحماية نظام ولاية الفقيه خلال المراحل المصيرية. إذ نجحت في أن تصنع من هؤلاء المستضعفين هياكل تنظيمية فاعلة، مثل: حزب الله والبسيج والحرس الثوري واللجان الثورية التي تمكنت بدورها من القضاء على أزلام نظام الشاه، وسحق أعداء الثورة، كما خاضت الحرب ضد العراق. وبالقدر الذي حقق به هؤلاء المستضعفين مصالح الثورة، ازدادت مكانتهم الاجتماعية ومكاسبهم السياسية، بطريقة بدت كما لو أنها صفقة ناجحة بين الثورة والمستضعفين لتحقيق المصالح المتبادلة بينهما.
ومن ناحية أخرى استخدمت الثورة نُصرة المستضعفين في بناء واجهة إنسانية لها، ولإيجاد قاسم وجداني مشترك مع جماعات الإسلام السياسي بالمنطقة، وإعادة ترتيب أولويات آحاد المسلمين على أمل تغيير انتمائهم المذهبي، أو على أقل تقدير اكتساب احترامهم واحترام كل من استقر في وجدانه أنه مستضعف. وبالتالي إذا تبصرنا في الدستور الإيراني سنجد أنه قد نصّب إيران داعمة وحيدة لجميع مستضعفي العالم، وحصر لها الحق في تعريف من هو المستضعف ومن هو المستكبر وفق رؤيتها ومصالحها الخاصة، بما يخول لها التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
حسن روحانى – أرشيفية
ثانيا: المظلومية المذهبية:
تُعد المظلومية من القيم الشيعية الثابتة التي يتم تناقل تفاسيرها التاريخية وتوظيفها المذهبي، منذ أن صاغها ونظّر لها مفكرو وفقهاء المذهب خلال العصر الصفوي وحتى اليوم. وهي من القيم التي تؤصل لأيقونة الاضطهاد الديني، التي يتم غرسها في الوعي الجمعي الشيعي بشكل خاص؛ بوصفهم “مستضعفين” في مجتمعاتهم. وبنفس القدر فإن ثبات قيمة المظلومية بهذا الشكل من شأنه أن يُرسِّخ بصورة تلقائية فكرة الانتقام من السلطة المُستكبرة الظالمة والخروج عليها.
وتنطلق فكرة المظلومية عند الشيعة تاريخيا من مظلومية السيدة فاطمة الزهراء – رضى الله عنها – ومظلومية ابنها سيدنا الحسين – رضى الله عنه – في كربلاء، والتي تعد الأكثر تأثيراً في وجدان الشيعة على الإطلاق؛ خاصة بعد أن صاغ منها منظرو المذهب أيقونة للتضحية والفداء ومعينا ثورياً ضد الظلم والطغيان لا ينضب أبدا. وبعد أن نقلت الثورة الإسلامية، الشيعة من صفوف المعارضة إلى سدة الحكم، صاغت من المظلومية استراتيجية مذهبية لدفع الأقليات الشيعية في العالم نحو الظهور الاجتماعي والسياسي؛ بدعوى استعادة حقوقهم الدينية، ومواجهة أحفاد من ظلموهم. فضلا عن تحقيق المصالح عدد من السياسية لنظام ولاية الفقيه، نذكر منها:
1. خلق مكونات معرفية ووجدانية وسلوكية واحدة لدى الشيعة، وربطهم عقيدياً وسياسيا بالولي الفقيه، بوصفه ولي أمر الإسلام والمسلمين؛ كي يكونوا بمثابة الظهير الشعبي لسياسة إيران الذي يمكن تحريكه حال تعرضها لخطر خارجي.
2. بناء مجال حيوي مذهبي لحدود إيران الجغرافية، وذلك ضمن سلسلة من العناصر التي تعزز دور إيران ونفوذها داخل دوائر الاهتمام الخاصة بها.
3. تعزيز عناصر القوة التي يرتكز عليها الأمن القومي الإيراني، عبر تكوين درع دفاعي مذهبي يحيط بالحدود الجغرافية للدولة.
4. تبرير اللجوء لأعمال العنف، الذي يقوم على مخزون متراكم من الكراهية للآخر، تبريرا دينيا، من شأنه أن يغطي على سلوكيات إيران الخارجية القائمة على التوسع وتعزيز النفوذ.
وفي هذا السياق، اقترنت المظلومية بقيمة أخرى، هي قيمة المقاومة والاستشهاد. ومن ثم، فمن الطبيعي أن يوظف النظام الإيراني دماء الشهداء في تعزيز فوته الناعمة بوصفه نظاماً استشهاديا لا يهاب لقاء العدو. وبناء عليه فإنها نجحت في نشر ثقافة الاستشهاد بين الشيعة بوصفها أفضل استراتيجية لتعزيز المقاومة؛ انطلاقا من كونها موروثا شيعيا يتمثل ثورة الحسين واستشهاده. كما نجحت في رسم صورة ذهنية لها مفادها أنها “غير قابلة للردع” مع عتبة ألم عالية، وأن إسلامها الثوري لن يبقى حياً ما لم تحيا به جمهورية إيران الإسلامية. وبالتالي فإن الحفاظ على هذه الجمهورية ينطوي على قيمة دينية مطلقة لدى عموم الشيعة في العالم.
ثالثا: الوحدة الإسلامية:
يأتي تبني إيران لـ الوحدة الإسلامية لتحقيق هدفين، الأول: هو تجاوز حاجز الرفض الإقليمي المحيط بها، بعد أن بات على يقين تام بأنها دولة طائفية. والثاني هو الالتفاف على أنظمة الحكم بالمنطقة، والعمل على تشويش الراي العام وتحريضه لتغيير انتمائها السياسي أو المذهبي. وقد اختص الدستور الإيراني الوحدة الإسلامية بعدد من المواد التي تحض الحكومة على إقامة سياستها العامة على أساس التضامن بين الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي.
وفي هذا السياق، تبنت طهران، عام 1979م، مناسبة رسمية أطلقت عليها أسبوع الوحدة الإسلامية، كي تبرهن أمام مسلمي العالم أن نظامها يدعو للوحدة بين المسلمين وللتقريب بين المذاهب الإسلامية سواء الشيعية منها أو السنية. وبنفس القدر، إعطاء انطباع بأن إيران الشيعية تمد يد التسامح مع أهل السنة سواء الموجودين بإيران أو خارجها. ومن ثم أحيت فكرة التقريب بين المذاهب وأعطتها بُعدا استراتيجيا في تعاملها مع العالم الإسلامي، وأسست مجمعاً عالمياً للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ضمن استراتيجية إيران لتصدير قيمها المذهبية.
                                    .. انتظروا الجزء الثانى من الدراسة: “مكونات بناء النفوذ الجيوشيعى” ..
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version