عبدالله فارس
المقدمة
mostbet mostbet giriş mostbet mostbet girişيشهد السودان منذ أبريل 2023 أزمة شاملة هي الأخطر في تاريخه الحديث، إذ انفجر الصراع المسلح بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان،وميليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليخرج سريعًا عن إطار الخلافات السياسية إلى حرب شاملة ذات امتدادات محلية وإقليمية ودولية. هذا الصراع لم يأتِ من فراغ، بل تراكمت جذوره منذ سقوط نظام عمر البشير عام 2019، مرورًا بمرحلة انتقالية مضطربة اتسمت بتنافس على السلطة وتباين في الرؤى بين المكونات العسكرية والمدنية، وصولًا إلى الخلاف الحاد حول دمج قوات الدعم السريع في المؤسسة العسكرية، وما صاحبه من سباق محموم للسيطرة على الموارد الاقتصادية الحيوية مثل الذهب والنفط والمعادن.
تجاوزت تداعيات الحرب حدود المواجهة العسكرية المباشرة، لتطال البنية التحتية للدولة وتعمّق الانهيار الاقتصادي، حيث انخفضت قدرة الحكومة على توفير الخدمات الأساسية، وتدهورت أوضاع الملايين من المواطنين في ظل نقص الغذاء والدواء وانهيار المنظومة الصحية. كما أدت المعارك إلى نزوح ولجوء ملايين السودانيين، وسط انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان طالت المدنيين في مناطق النزاع.
وفي خضم هذه الفوضى، تحوّل السودان إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث دعمت قوى إقليمية ودولية أطرافًا مختلفة في الصراع، ما أضفى عليه بعدًا جيوسياسيًا معقدًا، وزاد من احتمالية استمراره وتفاقمه. فارتباط الأزمة بالسياق الإقليمي المضطرب في القرن الأفريقي، وتداخلها مع النزاعات في إثيوبيا وليبيا وجنوب السودان، جعلها قضية أمن إقليمي بامتياز، بينما ساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في إعادة تشكيل التحالفات الدولية التي انعكست مباشرة على الميدان السوداني.
أمام هذا المشهد المركب، تأتي هذه الدراسة لتسلّط الضوء على ملامح الأزمة السودانية وتطوراتها، وتستعرض أبرز التحديات التي تواجه استقرار السلطة، إضافة إلى تحليل التأثيرات الإقليمية والدولية للصراع، وصولًا إلى رسم صورة واضحة للسيناريوهات المحتملة لمستقبل البلاد، في محاولة لفهم المسارات الممكنة أمام السودان في واحدة من أكثر مراحله التاريخية خطورة وتعقيدًا.
أولًا: ملامح الأزمة السودانية
شهد السودان في الربع الثاني من عام 2023 تصاعدًا في الصراع بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وميليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). انطلقت الأزمة عندما حاولت ميليشيات الدعم السريع السيطرة على قاعدة جوية تابعة للجيش في الخرطوم، مع سعيها لتوسيع تحركاتها في مدن أخرى، مما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع الجيش الذي رفض هذه التحركات، واعتبرها تحديًا لسلطة القيادة العسكرية وعدم تنسيق مسبق.
ومع ذلك، تعود جذور التوتر بين الطرفين إلى ما قبل اندلاع المواجهات المسلحة، حيث بدأ الصراع منذ تشكيل المجلس السيادي في 2019، الذي ضم مدنيين وعسكريين تحت قيادة البرهان، مع تعيين حميدتي نائبًا له. ورغم توتر العلاقة بينهما، تعاون الطرفان في حل أزمة الحكومة الانتقالية، بما في ذلك الإطاحة برئيس الوزراء عبدالله حمدوك في أكتوبر 2021. إلا أن الانقسامات تصاعدت مع محاولات كل طرف لتعزيز قوته عبر تحالفات مع القوى المدنية، إذ رأت ميليشيات الدعم السريع نفسها قوة مستقلة عن الجيش، في حين طالب البرهان بدمجها ضمن الجيش النظامي، وهو ما شكل الشرارة الأولى للمواجهات المسلحة في أبريل 2023. إضافة إلى ذلك، لعبت الرغبة في السيطرة على الموارد الطبيعية والسلطة العسكرية دورًا محوريًا في تفاقم الصراع، حيث سعى كل طرف للهيمنة على القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل النفط والمعادن.
تطور الأزمة في السودان خلال عامي 2024 و2025
شهد الصراع بين القوات الغير نظامية “الدعم السريع” والجيش تغيرات ديناميكية خلال عام 2024، حيث اعتمدت ميليشيات الدعم السريع استراتيجية السيطرة على المواقع ذات الثقل الاقتصادي والاستراتيجي، بينما لجأ الجيش إلى القصف الجوي بهدف تحجيم تحركات قوات الدعم السريع والسيطرة على مناطق تواجدها في المدن الكبرى كالعاصمة الخرطوم. وقد أسفر الصراع عن تدمير البنية التحتية والمرافق الأساسية، ما زاد من معاناة المدنيين.
تصاعدت الأزمة في النصف الأول من 2024 بفعل تدخل الدول الكبرى والإقليمية التي دعمت كل طرف بما يتوافق مع مصالحها الجيوسياسية؛ إذ تلقى الجيش السوداني دعمًا من بعض الدول الإقليمية، مما عزز قدراته، في حين اعتمدت الميليشيات على العوائد المالية من مناجم الذهب، بالإضافة إلى دعم غير مباشر من بعض الدول الغربية والإقليمية.
وتفاقمت الأزمة الإنسانية والمعيشية، مع موجات نزوح واسعة داخليًا وخارجيًا، وتدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض نتيجة تدمير البنية التحتية، إلى جانب انعدام الأمن الغذائي بفعل تدمير المناطق الزراعية. كما شهد الإقليم موجات من العنف العرقي والقتل الجماعي، خاصة في دارفور، مع مخاوف من تكرار سيناريو الإبادة الجماعية السابقة، إلى جانب تجنيد الأطفال وتعريض النساء والأطفال لأشد أشكال العنف والاستغلال.
شهد السودان أزمة إنسانية واسعة النطاق منذ اندلاع الحرب، حيث تشير تقديرات أممية حديثة (2025) إلى نزوح أكثر من 12 – 13 مليون شخص داخليًا وخارجيًا، منهم 7.7 مليون نازح داخلي. في القطاع الصحي، وثقت التقارير الدولية أكثر من 519 هجومًا على منشآت الرعاية الصحية حتى يناير 2025، مما أدى إلى خروج نحو 70 – 80% من المرافق الصحية عن الخدمة في مناطق القتال.
كما لحقت أضرار جسيمة بالبنية التحتية، حيث سجلت تقارير أوتشا وACAPS تدميرًا واسعًا في الطرق والجسور، مما عطل حركة الوصول البري خاصة على محاور الخرطوم – كردفان – دارفور. بين يونيو وديسمبر 2024، بلغت قيود وصول المساعدات الإنسانية ذروتها، مما زاد من معاناة المدنيين في مناطق النزاع.
في قطاع الكهرباء، انخفضت نسبة الوصول للخدمة بشكل ملحوظ مقارنة بنسبة 66% قبل الحرب (بيانات البنك الدولي 2023)، مما فاقم من الأزمة المعيشية.
على الصعيد العسكري والسياسي، شهد عام 2025 تطورات مهمة، حيث أعلن الجيش السوداني في 21 مارس استعادة السيطرة على القصر الرئاسي في الخرطوم، مع تصعيد العمليات في أم درمان لاستهداف مواقع قوات الدعم السريع. من جهته، أكد قائد ميليشيات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 30 مارس استمرار الحرب، متوعدًا بقوة أكبر. كما أثار اتفاق ميليشيات الدعم السريع مع قوى سياسية لتشكيل حكومة موازية مما ادي الي مخاوف من تقسيم السودان وتعقيد الأزمة،
ثانيًا: التحديات التي تواجه استقرار السلطة في السودان
أدت الأحداث المتسارعة في السودان، الناجمة عن الصراع المستمر بين القوات الغير نظامية ‘ الدعم السريع” والجيش، إلى إضعاف الدولة وهشاشة مؤسساتها، مع استمرار الخراب الناتج عن الحرب، مما يضع أمام استقرار السلطة تحديات جوهرية، من أبرزها:
1. التاريخ السياسي المضطرب للسودان، الذي شكّل عاملاً رئيسياً في حالة عدم الاستقرار، حيث ساهمت الانقلابات العسكرية المتكررة والتنافس المستمر بين القوى السياسية، سواء بين المدنيين والعسكريين أو داخل الفصائل العسكرية نفسها، في غياب سلطة مستقرة قادرة على الحكم لفترات طويلة، ما أدى إلى تفاقم الأزمات السياسية وعجز الحكومات المتعاقبة عن تحقيق الاستقرار المنشود.
2. التدخلات الإقليمية والدولية التي لعبت دورًا معقدًا في المشهد السياسي السوداني، إذ تدعم بعض الدول أطرافًا محددة داخل السودان لتحقيق مصالح استراتيجية، ما فاقم الصراع على السلطة، بالإضافة إلى أن المساعدات الخارجية المشروطة أثرت بشكل كبير على توجهات الحكومة، مما زاد الانقسامات السياسية الداخلية وأضعف قدرة الدولة على بناء سلطة قوية ومستقلة.
3. الأوضاع الاقتصادية المتردية، التي تعتبر من أبرز التحديات، حيث أدى الانهيار الاقتصادي وتزايد حجم الديون الخارجية إلى تقليص قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات واضطرابات متكررة تهدد بقاء السلطة وتزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي.
4. تزايد النزاعات القبلية وانتشار الجماعات المسلحة في مناطق عدة مثل دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، والتي تمثل عائقًا كبيرًا أمام استقرار السلطة، إذ تؤدي هذه الصراعات إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار الأمني، وتحد من قدرة الدولة على بسط نفوذها على كامل أراضيها، ما يهيئ بيئة ملائمة لاستمرار الاضطرابات السياسية والعسكرية.
5. ضعف المؤسسات الديمقراطية وغياب توافق سياسي واضح حول شكل الحكم، اللذان يشكلان عقبة رئيسية أمام ترسيخ الاستقرار، حيث تعاني البلاد من أزمات متكررة تتعلق بصياغة الدستور وإدارة المرحلة الانتقالية، ما يفاقم الخلافات الداخلية ويحول دون قدرة أي سلطة على إرساء نظام حكم مستدام ومستقر.
6.تزايد النزاعات الحدودية مع إثيوبيا وأثرها على استقرار السودان شهدت الفترة الأخيرة تصاعدًا في التوترات على الحدود السودانية الإثيوبية، حيث توغلت ميليشيات إثيوبية غير رسمية مرتبطة بشكل غير مباشر بالجيش الإثيوبي في قرى حدودية بولاية القضارف السودانية. وأسفرت هذه التحركات عن منع مئات المزارعين السودانيين من استصلاح أراضيهم وطردهم، واستبدالهم بمزارعين إثيوبيين، ما يزيد من حدة النزاعات على الأراضي الزراعية الحيوية. ويرجع سبب هذه النزاعات إلى أهمية المنطقة الاستراتيجية والاقتصادية للطرفين، خاصة في ظل تفاقم أزمة الجفاف داخل إثيوبيا، الأمر الذي دفع هذه الميليشيات للبحث عن موارد زراعية جديدة.
ويرى محللون أن هذه الميليشيات تمثل مجموعات منفلتة، لا تخضع بالكامل للجيش الإثيوبي، الذي يتجنب الدخول في مواجهات مباشرة معها خشية تأجيج الصراع الإقليمي. ويعزز هذا التوتر الحدودي من هشاشة الأمن القومي السوداني، ويشكل تحديًا جديدًا لاستقرار السلطة، إذ يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، وزيادة النزوح داخليًا، ويعقد الجهود المبذولة لتحقيق السلام والاستقرار في البلاد.
7.مقارنة مع الأزمة في ليبيا: دروس مستفادة من تجربة متشابكة
تُبرز تجربة ليبيا بعد سقوط نظام القذافي في 2011 التحديات الكبيرة التي تواجه الدول التي تعاني من الانقسامات السياسية والصراعات المسلحة، حيث أدى تشتت الفصائل وضعف المؤسسات إلى استمرار الجمود السياسي وتفاقم الصراعات على النفوذ والموارد، بدلًا من بناء توافق وطني حقيقي. وتؤكد هذه التجربة على ضرورة وجود إرادة سياسية مشتركة وتعزيز مؤسسات الدولة لتحقيق الاستقرار والحد من الانقسامات، وهو درس هام يمكن تطبيقه في سياق الأزمة السودانية.
تشير الحالة الليبية إلى أن غياب توافق سياسي واضح وإرادة مشتركة بين الأطراف المتصارعة، إلى جانب استمرار التدخلات الخارجية، يؤدي إلى مزيد من التعقيد وانعدام الأمن، مما يجعل من الصعب تحقيق السلام والاستقرار. وبالتالي، يتعين على السودان أن يستفيد من هذه الدروس عبر بناء مؤسسات قوية وتعزيز الحوار الوطني للحد من تداعيات الأزمة وتحقيق الاستقرار المستدام.
تؤكد هذه التحديات المعقدة والمتداخلة على ضرورة تبني استراتيجية وطنية شاملة تُعنى بمعالجة الجذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنزاع. ولا يمكن تحقيق الاستقرار الدائم في السودان دون إرادة سياسية حقيقية تُعلي من قيم الحوار والتوافق الوطني، مع الالتزام بإعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل يضمن استقلاليتها وفعالية عملها. كما يجب أن تترافق هذه الجهود مع دعم دولي وإقليمي هادف وغير متحيز، يركز على دعم السلام والتنمية بدلاً من تأجيج الصراعات.
من جانب آخر، لا بد من إشراك كافة الفاعلين في العملية السياسية، بمن فيهم القوى المدنية والمجتمعية، لإرساء أسس حكم ديمقراطي يرتكز على العدالة والمساواة وحماية حقوق الإنسان. هذا المسار الشامل يتطلب تحفيز التنمية الاقتصادية لمواجهة الأزمات المعيشية، مع تعزيز الأمن القومي والسيادة الوطنية، وهو السبيل الوحيد لتجاوز حالة الانقسام والصراعات التي تعصف بالبلاد، وبناء مستقبل مستقر للسودان وشعبه.
ثالثًا: التأثيرات الإقليمية والدولية للصراع السوداني والمواقف الدولية تجاهه
تحولت القارة الأفريقية إلى ساحة لتصفية الصراعات الدولية والإقليمية، حيث استغلت أوكرانيا الحرب الدائرة في السودان لدعم الجيش السوداني بقيادة البرهان، في محاولة لنقل الصراع من أراضيها إلى الخرطوم لمواجهة النفوذ الروسي، وذلك عبر وحدة الاستخبارات الأوكرانية “تيمور”. وتعد هذه الخطوة تحديًا واضحًا لموسكو التي تمتلك نفوذًا قويًا في غرب أفريقيا، حيث دعمت انقلابات في دول مثل مالي والنيجر. من جانبها، دعمت روسيا القوات الغير نظامية بقيادة حميدتي، سعياً لتحقيق مصالح استراتيجية تتمثل في السيطرة على مناجم الذهب والموارد الطبيعية كالبترول والغاز، لتلبية احتياجات أوروبا من موارد بديلة للنفط الروسي في ظل العقوبات الغربية. كما انتشرت قوات “فاجنر” الروسية في السودان لتعزيز النفوذ وتقليل تأثير العقوبات والضغط السياسي على موسكو، ما حول السودان إلى ساحة صراع بالوكالة بين القوى الكبرى.
لقد أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على تشكيل التحالفات الدولية، مما زاد من المنافسة بين الصين والولايات المتحدة وروسيا على النفوذ في أفريقيا، وانعكس ذلك بوضوح على مواقف هذه الدول تجاه الأزمة السودانية. حيث دعمت روسيا عبر “فاجنر” قوات الدعم السريع، في حين تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى احتواء النفوذ الروسي عبر العقوبات والتدخل الدبلوماسي.
وتتداخل المصالح الإقليمية في السودان مع النزاعات المستمرة في إثيوبيا وليبيا وجنوب السودان، حيث أدت هذه الاضطرابات إلى تدفقات هجرة ونقل للأسلحة والعناصر المسلحة، مما زاد من تعقيد الأزمة السودانية. كما أثر التباطؤ الاقتصادي العالمي وتراجع المساعدات الدولية على قدرة القوى الكبرى في التدخل بفعالية لحل الأزمة، إلى جانب التأثير المباشر على السودان من خلال تراجع معدلات التنمية وتفاقم معاناة السكان.
ولا يقتصر تأثير الصراع على السودان فقط، بل يشكل تهديدًا مباشراً للأمن القومي المصري والدول المجاورة، نظرًا للتداخل الجغرافي والتاريخي والاقتصادي. تصاعد التدخلات الدولية والإقليمية حوّل السودان إلى ساحة صراع بالوكالة بين القوى الكبرى، مما يعرض استقرار المنطقة للخطر. ومن جهة أخرى، رصدت تقارير انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، حيث احتجزت القوات الغير نظامية نحو 5000 شخص بينهم 3500 مدني في ظروف غير إنسانية، في حين احتجزت القوات النظامية 1500 شخص، مع توثيق استخدام أساليب التعذيب من كلا الطرفين رغم الدعوات الدولية المتكررة لحماية المدنيين. بالتالي، فإن الأزمة السودانية تتجاوز كونها نزاعًا داخليًا لتصبح قضية ذات تداعيات إقليمية ودولية واسعة، حيث لم تفلح الجهود المبذولة حتى الآن في تحقيق استقرار طويل الأمد، مما يزيد من احتمالية استمرار التدخلات الخارجية وتعميق الأزمة الإنسانية.
وفي سياق التطورات الأخيرة لعام 2025، شهد الصراع تحولات بارزة، حيث أعلن الجيش السوداني في 21 مارس استعادة السيطرة على القصر الرئاسي في الخرطوم، في خطوة اعتُبرت نقطة تحول مهمة. كما كثفت القوات المسلحة عملياتها في أم درمان لاستهداف مواقع القوات الغير نظامية ‘الدعم السريع” وإبعادها عن العاصمة. بالمقابل،
رابعًا: السيناريوهات المحتملة
في ظل التصاعد المستمر للأزمة السودانية، برزت ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الصراع، تختلف في احتمالية تحققها وتعتمد على موازين القوى المحلية، التدخلات الإقليمية والدولية، ومدى توفر الإرادة السياسية لتجاوز منطق الحرب وبناء دولة مستقرة.
1. انتصار القوات النظامية: احتمال مرجح لكنه محفوف بالتحديات
يشير إعلان وزارة الخارجية السودانية في مارس 2025 عن استعادة الجيش السيطرة على القصر الرئاسي في الخرطوم إلى تحول ميداني لصالح القوات النظامية، واعتبرته الحكومة “انتصارًا حاسمًا ضد المتمردين”. هذا الإنجاز يعزز من واقعية هذا السيناريو على المدى القريب.
ومع ذلك، فإن هذا الانتصار العسكري لن يضمن بالضرورة استقرارًا طويل الأمد، إذ يرتبط نجاحه بقدرة المؤسسة العسكرية على التحول من طرف صراعي إلى ضامن سياسي يتبنى مشروعًا شاملاً لإعادة بناء الدولة واحتواء القوى السياسية والمجتمعية. غياب هذه الرؤية قد يحوّل النصر إلى مجرد إعادة إنتاج لأزمات جديدة من خلال فرض مركزية أمنية قمعية.
التوصيات
– العمل على مصالحة وطنية شاملة تضم جميع الفصائل السياسية والمجتمعية لمنع أي انتقام أو صراعات جديدة.
– إعادة بناء مؤسسات الدولة بحيث تكون شفافة وقادرة على ضمان حكم عادل ومستقر.
– تعزيز دور القانون وحقوق الإنسان لتجنب أن يصبح الانتصار أداة لقمع الخصوم.
2. استمرار الحرب وتفاقمها: سيناريو الانزلاق نحو الفوضى
يرتكز هذا السيناريو على فشل الوساطات الإقليمية والدولية في فرض وقف دائم لإطلاق النار، ما يؤدي إلى استمرار الصراع وازدياد تفاقمه، خاصة مع دخول ميليشيات جديدة على خط المواجهة، مما قد يفضي إلى تفكك الدولة المركزية.
وتغذّي هذا الاحتمال عوامل عدة، منها تضارب المصالح الإقليمية، وغياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتصارعة وذلك يرجع الي رغبة القوات الغير نظامية التي تهدف الي تحقيق مصالحها دون النظر الي استقرار الدولة ، إلى جانب هشاشة المؤسسات الوطنية، ما قد يحول السودان إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية، على غرار الأزمات في ليبيا واليمن.
التوصيات
– تكثيف جهود الوساطة الدولية والإقليمية لفرض وقف دائم لإطلاق النار.
– دعم عاجل وموسع للمنظمات الإنسانية لتلبية احتياجات النازحين والمتضررين.
– إقامة آليات مراقبة لمنع تدخل ميليشيات جديدة أو تصعيد النزاعات الإقليمية.
3. الانتقال إلى حكم مدني: الأمل الممكن رغم هشاشته
يظل الانتقال إلى حكم مدني الخيار الأمل الأبرز للخروج من الأزمة، رغم صعوبة تحقيقه في المدى القريب. يتطلب هذا السيناريو توافر شروط أساسية، تبدأ بتنازلات حقيقية من جميع الأطراف المتصارعة، وتأسيس عقد اجتماعي جديد يرتكز على الشفافية، المساءلة، وتوزيع عادل للسلطة.
ويستلزم هذا المسار دعمًا إقليميًا ودوليًا غير منحاز، يركز على بناء مؤسسات الدولة بدلاً من مجرد احتواء الصراع. كما يحتاج إلى تحوّل في وعي النخبة السياسية والمجتمع، باتجاه نبذ منطق القوة، واعتماد آليات ديمقراطية لفض النزاعات وتحقيق الاستقرار.
التوصيات
– توفير الدعم الفني والمؤسسي لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية ومستقلة.
– تشجيع مشاركة جميع الأطراف السياسية والمجتمعية، بما في ذلك القوات المسلحة، في العملية الانتقالية.
– دعم المجتمع المدني لتعزيز الرقابة والمساءلة خلال مرحلة الانتقال السياسي.
4. سيناريو الانقسام الإقليمي: سيطرة ميليشيات الدعم السريع على دارفور وإعلان حكومة موازية
يفترض هذا السيناريو نجاح ميليشيات الدعم السريع في إحكام سيطرتها على مدينة الفاشر، بما يمهّد لبسط نفوذها على ولايات دارفور الأربع الأخرى، مستفيدة من الحاضنة القبلية والدعم الخارجي. وقد يؤدي هذا الوضع إلى إعلان إدارة سياسية موازية في الإقليم، بما يشبه الانفصال الفعلي، لتصبح البلاد أمام واقع حكومتين بعاصمتين وجيشين، أحدهما في الخرطوم تحت قيادة الجيش الوطني، والآخر في دارفور تحت قيادة ميليشيات الدعم السريع. هذا المسار من شأنه أن يعمّق الانقسام الجغرافي والسياسي، ويعزز التدخلات الإقليمية والدولية، حيث قد تسعى بعض القوى الخارجية لاستغلال الوضع الجديد لتعزيز نفوذها أو للحصول على موارد طبيعية في الإقليم. كما سيؤدي إلى تدهور إضافي في الأوضاع الإنسانية، إذ ستتحول خطوط التماس إلى جبهات مغلقة تعيق وصول المساعدات، ويزداد خطر اندلاع صراعات قبلية مسلحة داخل الإقليم نفسه. رغم أن هذا السيناريو قد لا يحقق اعترافًا دوليًا سريعًا بالكيان الجديد في دارفور، إلا أنه قد يفرض على المجتمع الدولي التعاطي معه كأمر واقع، مما يعقّد جهود استعادة وحدة السودان.
التوصيات
– تعزيز الانتشار العسكري للجيش الوطني في ولايات غرب السودان لمنع اكتمال سيطرة الميليشيات على الفاشر.
– تكثيف الضغط الدبلوماسي الإقليمي والدولي لرفض أي محاولة انفصالية.
– دعم الإدارة المدنية والخدمات في المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني لزيادة التفاف السكان حول الدولة الموحدة.
ختاما: الأزمة السودانية لم تعد شأنًا داخليًا بحتًا، بل تحولت إلى عقدة جيوسياسية تتقاطع عندها مصالح إقليمية ودولية متشابكة. التحديات الداخلية، من ضعف مؤسسات الحكم والانقسام السياسي، إلى الانهيار الاقتصادي والنزاعات القبلية، تجعل أي حل سطحي أو أحادي الجانب غير قابل للاستمرار.
السيناريوهات االاربعة المطروحة – النصر العسكري، استمرار الحرب، الانتقال إلى حكم مدني و سيطرة ميليشيات الدعم السريع على دارفور وإعلان حكومة موازية– تعكس تباين المسارات الممكنة، لكن المؤكد أن الاستقرار الحقيقي يتطلب صيغة توافقية شاملة، تدمج بين إنهاء الصراع المسلح وإطلاق عملية سياسية جامعة. بدون ذلك، سيظل السودان عالقًا في حلقة من الأزمات، تهدد أمنه وأمن محيطه الإقليمي، وتترك الباب مفتوحًا أمام مزيد من التدخلات الخارجية.
إن اللحظة الراهنة تمثل نقطة مفصلية: إما الانزلاق نحو الفوضى الممتدة، أو التحرك الشجاع نحو تسوية تاريخية تؤسس لدولة مستقرة وفاعلة.
المصادر
1- عبدالسلام، جيهان، “كيف تؤثر الحرب السودانية على الاقتصاد المصري”، مركز راع للدراسات الإستراتيجية، 30 أبريل 2023، على الرابط:
https://rcssegypt.com/14229
2- مركز الإمارات للسياسات، “أزمة متحركة: التداعيات الإقليمية للحرب في السودان”، 27 أبريل 2023، على الرابط:
https://epc.ae/ar/details/scenario/azma-mutaharika-altadaeiat-al-iqlimia-lilharb-fi-alsuwdan
3- ماجد، محمد، “من المنتصر في الحرب بالوكالة بين موسكو وكييف في السودان”، مركز الدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم، 12 يونيو 2024، على الرابط:
https://nvdeg.org/من-المنتصر-في-حرب-الوكالة-بين-موسكو-وكي
4- خالد، هايدي، “إلى أين يتجه السودان بعد عام من الحرب”، مركز الدراسات الاستراتيجية وتنمية القيم، يونيو 2024، على الرابط:
https://nvdeg.org/إلى-أين-يتجه-السودان-بعد-عام-من-الحرب
5- البدوي، عبد القادر، “قوات الدعم السريع السودانية 2003-2018: من ميليشيات إلى قوة نظامية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 17 أغسطس 2021.
6- جابر، شيرين، “تأثير تطورات الأوضاع في السودان على الأمن القومي المصري”، الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، على الرابط:
https://www.nasseracademy.edu.eg/
7- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الملف المصري، السنة التاسعة، العدد 115، أبريل 2024.
8- عبد العليم، عبد السميع، “طبيعة القوات المسلحة السودانية”، دورية علمية محكمة، كلية الآداب، جامعة أسوان، أبريل 2022.
9- تورشين، محمد، “تداعيات الصراع بين الجيش والدعم السريع على الأمن والاستقرار في السودان”، أبعد الاستراتيجية للدراسات.
10- منير، إسلام، “التعريف بالصراع الدولي، مراحله وأساليب إدارته”، المركز الديمقراطي للدراسات السياسية والاستراتيجية، على الرابط:
https://democraticac.de/?p=72099
11- عبد القادر، أحمد، “محددات الصراعات الداخلية المسلحة في النظم السياسية: دراسة نظرية”، المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية.
12- بكر، فاطمة، “الصراع الدولي بين القوة والمنفعة”، مجلة كلية التربية، جامعة عين شمس، العدد 28، 2022.
13- محي الدين، شيماء، “الصراع في السودان: الأسباب والتداعيات والمآلات المستقبلية”، مجلد 45، عدد 1.