تشهد دولة أفريقيا الوسطى هذه الأيام تصاعدًا في أعمال العنف، وذلك على خلفية الانتخابات الرئاسية، التي جرت في الـ 27 من ديسمبر الماضي، حيث فاز فيها رئيس البلاد الحالي، فوستان أرشانج تواديرا بولاية ثانية، الأمر الذي أدى لقيام عدد من الجماعات المسلحة المتمردة بشن هجوم واسع النطاق على العاصمة “بانغي”.
ويهدف هذا التمرد من قبل المجموعات المسلحة للإطاحة بالرئيس المنتخب، ووفقاً لتقارير دولية فقد سيطر المتمردون على ثلثي البلاد، ومن جهتها أعلنت الحكومة يوم 23/1/2021 حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد وفي ظل التجاذبات الداخلية والتنافس الخارجي فهل تعود أفريقيا الوسطي جمهورية للتمرد ؟
أفريقيا
فرانسوا بوزيزى – أرشيفية
وتُشكّل تحالف الجماعات المسلحة الثلاث الكبرى في كيان واحد تحت راية “تحالف الوطنيين من أجل التغيير”، والمجموعات الثلاث هي “الحركة الوطنية لأفريقيا الوسطى” النشطة في الشمال، و”العودة والمطالبة وإعادة التأهيل” التي يغلب عليها الفولاني في الغرب، ومليشيا “أنتي بالاكا” المعروفة بموالاتها لفرنسوا بوزيزي الرئيس السابق .
فقد أعلنت الجماعات المتمردة الرئيسة الناشطة في البلاد عن تشكيل “تحالف الوطنيين من أجل التغيير” في 18 ديسمبر 2020، من أجل منع إجراء انتخابات رئاسية في البلاد في 27 ديسمبر 2020، ومحاولة محاصرة بانجى 13/1/2021، لكن مقاومة الجيش الحكومي المدعوم من “القبعات الزرقاء” والقوات الدولية المتحالفة أفشلت خطط المتمردين لمحاصرة بانجى وبسط سيطرتهم على أكبر مدن البلاد، الأمر الذي سمح بإجراء الانتخابات التي فاز بها الرئيس الحالي، فوستين أركانج تواديرا، وأعلنت قيادة “تحالف الوطنيين” عن عدم اعترافها بنتائج الاقتراع وعزمها مواصلة القتال ضد الحكومة، مما أدي إلي إعلان حالة الطوارئ في البلاد مع محاصرة المتمردين يوم 23/1/2021.
تجاذبات داخلية:
وأعلنت الأمم المتحدة يوم 17/1/2021 أن قوات حفظ السلام في أفريقيا الوسطى استعادت السيطرة على المدينة بانجاسو، التى سيطر عليها المتمردون يوم 3/1/2021 وقال الناطق باسم بعثتها في أفريقيا الوسطى (مينوسكا) فلاديمير مونتيرو، إن “المتمردين تخلوا عن المواقع التي احتلوها وفروا من المدينة ليلة الجمعة 16/1/2021، مؤكداً أن الوضع هادئ وتحت السيطرة والمواقع التي احتلتها العناصر المسلحة لم تعد كذلك.
وقد أكدت بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جمهورية أفريقيا الوسطى (مينوسكا) 19/1/2021 مقتل جنديين مغربيين من القبعات الزرق في كمين نصبه مسلحون مفترضون من انتي-بالاكا في بانجاسو، في ثاني هجوم دموي يستهدف الكتيبة المغربية في هذه المدينة خلال يومين.
كما أعلنت القوات الحكومية في إفريقيا الوسطى بمساعدة قوة حفظ السلام (مينوسكا) 10/2/2021 استعاده مدينة بوار، التي تبعد 340 كيلومترا عن العاصمة بانغي، والتي تضم معسكر “لوكلير”، مقر قيادة المنطقة الغربية للجيش الوطني من أيدي المتمردين وأجبرتهم على التقهقر، دون أي قتال، حيث تخلى مقاتلو الجماعات المسلحة عن مواقعهم وفروا هاربين.
الرئيس التشادى – صورة أرشيفية
لماذا تبدو تشاد طرفا في المعادلة بأفريقيا الوسطى؟
وصل الرئيس بوزيزي إلى الحكم بدعم من الجيش التشادي، حيث كان الرئيس التشادي إدريس ديبي يرغب في وجود حكومة موالية له في الجنوب. وتمثل الاضطرابات الأمنية في أفريقيا الوسطى أزمة أمنية كبيرة بالنسبة لتشاد، حيث تتشارك الدولتان في مساحة حدود واسعة، كما أن تشاد تضم الآلاف من اللاجئين من أفريقيا الوسطى الذين نزحوا هربا من القتال الدائر عبر سنوات.
وعانت تشاد قديما من هجمات متمردين يتخذون من السودان جارتها الشرقية مقرا لهم، ولم تكن ترغب في أن تصبح حدودها الجنوبية أيضا مركزا آخر للمتمردين، الأمر الذي دفعها للتدخل عام 2003 لوضع حد لعمليات التمرد في أفريقيا الوسطى.
وكانت آخر العمليات التي قامت بها تشاد داخل أراضي أفريقيا الوسطى كانت من أجل القضاء على المجموعة المتمردة التي يقودها بابا لادي الهارب من تشاد. أظهرت تقارير دولية مشاركة مرتزقة تشاديين في هذه الأعمال العسكرية في إفريقيا الوسطى، فقد أعلن الجيش في أفريقيا الوسطى عن تمكنه من تجريد نحو 50 مسلحاً تشادياً قرب العاصمة “بانغي” وهذا فضلاً عن مصادرة وثائق تؤكد وجود نقل لمرتزقة من دولة تشاد إلى أفريقيا الوسطى.
أطماع وتنافس خارجي:
تسارع روسيا وفرنسا وغيرهما من القوى الخارجية إلى توطيد العلاقات مع أفريقيا الوسطى، إرتباطًا برغبتها فى الحصول على الموارد الأساسية لأفريقيا الوسطى والتى تتمثل في الألماس والذهب اللذين يعتبران أهم الموارد التي تحظى بها.
الحضور الروسي جاء على حساب التواجد الفرنسي الذي بدا دوره باهتا خلال السنوات القليلة الماضية، خاصة بعد إعلان وزير الدفاع الفرنسي إنتهاء العمليات العسكرية الفرنسية في أفريقيا الوسطى عام 2016 وهو ما فتح المجال للتواجد الروسي في البلاد.
وخلال فترة زمنية ليست بالطويلة استطاعت روسيا التواجد بقوة وحضور واضح داخل أفريقيا الوسطى ومالي أو ما يعرف بـ”مربع النفوذ الفرنسي في أفريقيا”، وتمكنت من مد جسور تواصل وتفاهم مع السلطات في أفريقيا الوسطى والتمركز بصورة دائمة على الرغم من وجود نحو 12 ألفا من القوات التابعة للأمم المتحدة وكذا قاعدة عسكرية فرنسية.
كما أن روسيا خلال فترة تواجدها منذ عام 2018 أسست العديد من الشركات متعددة المجالات على رأسها شركة “لوباي انفست” التي تعمل في مجال التنقيب عن المعادن (في ياوا، غرب)، وكذا شركة المجموعة المالية الدولية التي تتشعب في مجالات عدة ويشير البعض إلى أنها واجهة لغسيل الأموال في أفريقيا الوسطى.
على الجانب الآخر، مثلت أفريقيا الوسطى منطقة نفوذ تاريخية تقليدية لفرنسا، نتيجة استعمارها لعقود بدأت من 1910 وانتهت في 1960، عمدت خلالها إلى استنزاف مواردها حتى وقع الاستقلال عام 1960. وظلت فرنسا على علاقة متواصلة مع السلطات هناك، فضلا عن قيامها بعملية عسكرية استمرت على مدار 3 سنوات لكنها باءت بالفشل إذ شهدت القوات الفرنسية خلال فترة تواجدها أعمال عنف ومواجهات دامية في مختلف مناطق أفريقيا الوسطى وهو ما استدعى انسحاب فرنسا وإنهاء عملياتها العسكرية التي لم تؤت ثمارها.
بالرغم من الانسحاب الفرنسي، ما زال هناك تواجد عسكري ممثل في 350 جندي وقاعدة عسكرية في العاصمة بانغي. وحسب وزير الدفاع في ذلك الوقت، فإن وجود الجيش الفرنسي سيكون أقل إلا أن ذلك لن يمنع من التواصل الملموس بين فرنسا وهذه الدولة.
فوستين تواديرا – أرشيفية
عواقب محتملة
واليوم وعلى هامش التنافس على السلطة في أفريقيا الوسطى ما بين رئيس إنقلابي سابق (فرانسوا بوزيزي) مخلوع فرنسي التبعية، و رئيس قائم (فوستين تواديرا) روسي التبعية . تشهد جمهورية أفريقيا الوسطى صراعاً محتدماً من المتوقع أن تكون له عواقب وخيمة.، ونموذجا ومقدمة تنذر بامتداد النيران إلى دارفور وجبال النوبة.
فبتوجه قوات روسية ورواندية حليفة إلى أفريقيا الوسطى، فإن شمس فرنسا قد غربت في هذا البلد، أو ربما تنقسم هذه الجمهورية ما بين روسيا وفرنسا، على ذات الانشقاق الليبي.
وعلى واقع أن الاهتمامات الروسية تتشابه مع الفرنسية في التركيز على السيطرة ونهب الثروات , فلا يستبعد أن يمتد الصراع بينهما للسيطرة على إقليم دارفور على أقل تقدير إن لم تمتد السيطرة إلى جبال النوبة. ولكن الغلبة ستكون لروسيا على فرنسا من واقع التفوق الروسي في المجالين العسكري والاقتصادي.
فوجود الذهب والماس واليورانيوم، وكثير من الغاز وقليل من البترول يستدعي أن يسيل لها لعاب فرنسا التي تعاني صعوبات إقتصادية جدية تستنزف قدراتها كدولة تراجعت إلى الصف الثاني. كما أن الرئيس بوتين بعد تجاربه الناجة في سوريا وليبيا نراه اليوم يمد عنقه إلى الساحل السوداني الشرقي، بما يقتضي أيضا التمدد داخل الأراضي السودانية.
فمن المؤكد أن نيران أفريقيا الوسطى وألسنة اللهب المتوقعة لن تكون بعيداً عن الأراضي السودانية والقبائل الهشة في إقليم دارفور وجبال النوبة، فضلاً عن أن تلك الفوضى قد تفتح قنوات للتهريب عبر الحدود وغير ذلك من النشاطات الإجرامية، مما يؤثر علي دول الجوار ويعزز النشاط والعمل في انتقال المرتزقة والعناصر الإرهابية وتهريب البشر. 
وقد يؤدي ذلك إلى لجوء الشباب السودانيين “العاطلين” عن العمل، والباحثين عن المال، في ظل ظروف السودان الاقتصادية الصعبة والمعقدة، للعمل كمرتزقة للقتال ضمن صفوف الجماعات المسلحة في أفريقيا الوسطى، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى كارثة ومشاكل جديدة سيعاني منها السودان.
الخلاصة
تثير التطورات الراهنة على المشهد السياسي والعسكري في أفريقيا الوسطى قلقاً متزايداً، حيث تقف حكومة أفريقيا الوسطي أمام اختبار اتفاق السلام وعجزها عن بسط الأمن بسبب عاملين، داخلي: وهو سيطرة المتمردين علي العديد من المناطق والهجوم المستمر علي قوات الحكومة و قوات حفظ السلام، ما خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، وخارجي: بسبب صدام روسيا مع فرنسا التي لا تستطيع غضّ الطرف عَمّا يجري في أفريقيا، لا سيما في مناطق نفوذها، رغبةً في استعادة دورها التاريخي.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version