تواجه الديمقراطية فى تونس أكبر اختبار منذ ثورة 2011، بعد اتخاذ الرئيس التونسى قيس سعيد عدد من القرارات التى اثارت الجدل بين مؤيد ومعارض ، وتهدف تلك القرارات إلى وقف حالة التدهور فى تونس وإخراج البلاد من سيطرة حركة النهضة التى تنتمى إلى جماعة الاخوان المسلمين ذات الأغلبية فى البرلمان، وهى استجابة لمطالب الشارع التونسى لوقف حالة التدهور وشلل المؤسسات، فما أسباب تلك الأزمة ، وما هى ردود الأفعال الإقليمية والدولية تجاه ما يحدث فى تونس ،وما السيناريوهات المتوقعة لتلك الأزمة ؟
أسباب الأزمة 
تصاعدت حدة التوتر فى الأشهر الأخيرة داخل أركان النظام السياسى التونسى وخاصة مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والصحية والتخبط وسوء الأداء بين أطراف النخبة السياسية التونسية فى التعامل مع هذه الأزمات، فضلًا عن سعى حركة النهضة ومعها أطراف داخل النخبة البرلمانية الحاكمة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية بدلاً من مواجهة تداعيات جائحة كورونا، فتقدم نوابها فى شهر مايو الماضى بمشروع قانون لتعديل القانون الانتخابى الحالى، وتحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو الاستفتاء من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، وهو تحول يقضى على ما تبقى من الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية، ويعنى عملياً التحول نحو النظام البرلمانى رغم أن رئيس الجمهورية منتخب مباشرة من الشعب، بما يعنى أنه يجب أن يتمتع بصلاحيات مستقرة كما فى النظم الرئاسية.
تونس
رئيس البرلمان التونسى راشد الغنوشى – أرشيفية
وقد قرر رئيس الحكومة (المُعفى من منصبه) هشام المشيشى إجراء تعديل وزارى دون الرجوع للرئيس أقال فيه وزير الداخلية المقرب من قيس سعيّد، وهو ما اعترض عليه الأخير ورفض استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية، وظل الأمر معلقاً حتى اندلاع الأزمة الأخيرة وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، كما شهدت البلاد أيضاً “مكايدة سياسية” بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية حين أقدم الأول على إقالة وزير الصحة وقال: “إن وزير الصحة اتخذ قرارات شعبوية وإجرامية”، وإنه عاين بنفسه “سوء التسيير فى وزارة الصحة”.
والحقيقة أن قرار رئيس الحكومة بإقالة وزير الصحة يرجع بكون الوزير “محسوباً” على الرئيس ودعم قراره باستدعاء الجيش لمواجهة الجائحة فى بلد تدهور فيه الوضع الصحى، إذ بلغ عدد الإصابات 550 ألف واقتربت الوفيات من 20 ألف (عدد سكان تونس حوالى 12 مليون نسمة) وبلغت نسبة الذين تلقو لقاح كورونا ما يقرب من مليون شخص وهى أفضل من بعض البلاد العربية ولكنها أقل بكثير مما تطلع إليه الشعب التونسى.
وكذلك يعتبر المجتمع المدنى أن فشل حكومة “المشيشى” فى إدارة أزمة كورونا هو الفصل الأخير فى سلسلة الترديات الاقتصادية والاجتماعية، ذلك يفسر بروز مطلب المجتمع المدنى التونسى كأولوية أولى بتشكيل حكومة كفاءات “وطنية”، أى اختيار حكومة تكنوقراط ذات طابع غير حزبى تستهدف رفع كفاءة معيشة المواطن التونسى، إذ تشير التقارير إلى ازدياد معدل البطالة إلى 17%، وارتفاع الدين المحلى والخارجى نسبة إلى الناتج الإجمالى المحلى، وبالتالى تنجح الحكومة الجديدة فى إدارة سليمة لأزمة كورونا.
كما يمثل ملف مكافحة الفساد فى تونس أحد أهم محددات السلوك السياسى لـ “قيس سعيد” فى تفسير قراراته الأخيرة، خاصة ملف الفساد المالى المتعلق بالأموال المنهوبة، حيث تقدم مؤشر الفساد فى تونس فى سنوات 2018، 2019، 2020 (المركز 73، 72، 69 بالترتيب) وذلك يفسر أن المجتمع المدنى التونسى يرى فى خطوة قيس سعيد فرصة سانحة لاستعادة دوره الأصيل فى ترسيخ الحوكمة والبدء فى تحييد العوامل المسببة للفساد.
والحقيقة أن ما شهدته تونس منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فى 2019 كان عبارة عن محاولات “استعراض صلاحيات” بين الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان، وهو ما عطّل أداء النظام السياسى وأصابه بالشلل التام وأدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
ماذا يحدث ؟
شهدت تونس خلال الأيام الماضية أحداثاً متعاقبة، بدأت مع خروج مظاهرات احتجاجية فى عدة مدن تونسية لمطالبة الحكومة بالتنحى وحل البرلمان، واستمرت مع استجابة الرئيس التونسى، قيس سعيد، لهذه التظاهرات بإعلانه فى 25 يوليو الجارى (2021)، تجميد عمل البرلمان لمدة شهر وإعفاء الحكومة من مهامها، مستنداً على الفصل 80 من الدستور التونسى الذى ينص على أن: لرئيس الجمهورية فى حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادى لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التى تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير فى بيان إلى الشعب.
وتهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادى لدواليب الدولة فى أقرب الآجال، وفى هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، ولذا لم يحل رئيس الجمهورية مجلس نواب الشعب إنما جمّد عمله لمدة شهر واعتبر أن أداء البرلمان مثل خطراً داهماً على كيان الوطن، وهو تفسير لم يكن محل توافق من أغلب فقهاء القانون الدستورى فى تونس، لذلك فأن زمة تونس هى فى جوهرها “دستورية”، حاول الرئيس أن يواجهها بإجراءات استثنائية من أجل انتزاع بعض الصلاحيات المتعارف عليها فى النظم الرئاسية الديمقراطية، وأيضاً وقف تربص الأحزاب، وخاصة حركة النهضة، بالمنظومة السياسية برمتها ومسئوليتها عن حالة الشلل التى أصابتها.
مظاهرات مؤيدة لقرارات قيس سعيد الأخيرة – أرشيفية
احتقان وتأييد 
ففى الوقت الذى أيدت فيه عدد من الأحزاب السياسية قرارات الرئيس التونسى، كشفت حركة النهضة التونسية الإخوانية عن رفضها لقرارات الرئيس، وهو الأمر الذى قابله الجانب المؤيد بتحميل الحركة الإخوانية مسئولية الاحتقان الذى يشهده الداخل التونسى منذ شهور، ومن جانبه كشف حزب آفاق تونس عن تأييده لقرارات الرئيس قيس بن سعيد، من خلال البيان الذى كشف عنه المتحدث الرسمى باسم الحزب، وقد كشف البيان عن موقفه من تصاعد الموقف السياسى فى تونس واصفًا حركة النهضة وحلفائها داخل البلاد بالمساهمين الرئيسيين فى تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى البلاد، إضافة إلى الدفع بالبلاد لحالة الاحتقان الشعبى.
وقد دعا الحزب التونسى فى بيانه كل من رئاسة الجمهورية والقوى السياسية النشطة لتهدئة الأوضاع الداخلية من أجل الحفاظ على مكتسبات ثورة 2011، مما يمهد البلاد للحفاظ على الخطوات الإصلاحية التى اتخذتها والبقاء على المسار الديموقراطى الحقيقى لتونس، على صعيد آخر وجه الحزب دعوته للرئيس مطالبًا إياه بمراعاة أن تكشف تونس عن الضمانات الدستورية خلال القرارات الرئاسية التى من المقرر اتخاذها خلال الفترة القادمة، حتى يتسنى للمجتمع الدولى التأكد من سير البلاد على المسار الدستورى الديموقراطى الصحيح.
ردود الأفعال الإقليمية والدولية 
تتبلور ردود الأفعال الدولية تجاه التطورات فى تونس فى الآتى:
الولايات المتحدة الأمريكية: أبدت قلقها إزاء إقالة الرئيس التونسى قيس سعيد رئيس الحكومة هشام المشيشى وتعطيل البرلمان، ودعت إلى الهدوء فى تونس، وطالبت باحترام الديمقراطية ومؤسساتها، ولم تصف ما جرى بأنه انقلاب.
فرنسا: دعت جميع القوى السياسية فى تونس إلى تجنب أى من أشكال العنف والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية للبلاد، ودعت لعودة المؤسسات إلى عملها الطبيعى فى تونس فى أقرب وقت.
إيطاليا: أبدت قلقها بشأن الوضع وما يترتب عليه من انعكاسات محتملة، ودعت المؤسسات التونسية لضمان الامتثال للدستور وسيادة القانون، وأكدت دعمها للاستقرار السياسى والاقتصادى فى تونس.
الإتحاد الأوروبى: دعا الأطراف السياسية الفاعلة فى تونس على احترام الدستور وتجنب الانزلاق إلى العنف.
الإتحاد الأفريقى: أكد على ضرورة احترام الدستور وسيادة القانون ، وأكد دعمه للاستقرار فى تونس.
تركيا: أكدت على وقوفها إلى جانب تونس التى تربطها علاقات تاريخية قوية، وكذلك الشعب التونسى، ولم يتضمن بيانها محاولة للتنديد أو سحب الشرعية من الإجراءات المتخذة، أو حتى التعبير عن دعم تركيا ووقوفها إلى جانب الأطراف التونسية غير الملتزمة بالقرارات الرئاسية، وهو ما يعتبر مناقضاً لما أعلنه رئيس البرلمان التركي وأحد قيادات حزب العدالة والتنمية “مصطفى شنطوب”، الذى صرح بأنه “لا يمكن تعليق الدستور فى تونس، و وصف ما يجرى فى تونس بمحاولة إجهاض لتجربة ديمقراطية وليدة استبشرت بها الشعوب العربية خيرا، ولكن قوى الشر العربية والغربية أبت إلا أن تتآمر على إرادة الشعب التونسى.
مصر: دعمت مصر قرارات الرئيس التونسى قيس ،ودعت جميع الأطراف للحوار لضمان استقرار الأوضاع فى تونس.
السعودية: أعربت عن احترامها قرارات قيس سعيد، واكدت علي وقوفها بجانب كل ما يدعم استقرار تونس.
الإمارات: لا يزال موقف الامارات غير واضح في الوقت الحالي.
الجزائر والمغرب: أكدت الحضور دون التعبير عن موقف واضح المعالم من التطورات، انتظارًا لما يسفر عنه تطورات الموقف التونسى.
الرئيس السيسى ونظيره التونسى – أرشيفية
ما السيناريوهات المتوقعة للأزمة التونسية؟
السيناريو الأول : عنف فى الشوارع وعودة النظم القديمة
من الممكن احتشاد أنصار الرئيس قيس سعيد، وهو مستقل سياسياً، وأنصار حركة النهضة فى الشوارع فى أنحاء البلاد، مما قد يؤدى لمواجهات عنيفة بين الجانبين قد تدفع قوات الأمن للتورط وبدء عهد من الاضطرابات أو تدفع الجيش للاستيلاء على السلطة.
والأسواء هو صعود سلطة فى تونس مدعومة بالداخلية والأجهزة الأمنية التى مازال بها تراث عقود الحكم غير الديمقراطى والعودة تدريجيا لنفس الوضع قبل الثورة، مما يؤدى إلى حدوث قمع يشمل كل القوى.
السيناريو الثاني : تعديلات دستورية واستفتاء وانتخابات
من المحتمل أن يعين “سعيد” بسرعة رئيساً جديداً للوزراء، ليتعامل مع الارتفاع الحاد فى حالات الإصابة بـ”كوفيد-19″ والأزمة المالية الوشيكة، ويعيد على إثر ذلك صلاحيات البرلمان بعد انتهاء التعليق لثلاثين يوماً، ويسمح بممارسته أعماله الطبيعية.
من الممكن أن يستغل “سعيد” الأزمة، للدفع بما يصفه بأنه التسوية الدستورية المفضلة لديه، وهى تحويل النظام فى البلاد لنظام رئاسى بناءً على انتخابات، لكن مع تضاؤل دور البرلمان، قد يلى تلك التغييرات استفتاء على الدستور وانتخابات جديدة.
وقد يلى ذلك إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وذلك السيناريو الأفضل والمرجح لتحقيق الاستقرار ومطالب الشعب التونسى.
السيناريو الثالث : سيطرة ديكتاتورية
قد يُحكم “سعيد” قبضته على مفاصل السلطة فى البلاد، وكذلك الأجهزة الأمنية، ويؤجل أو يلغى العودة للنظام الدستورى، ويشن حملة على حرية التعبير والتجمع، وهى حقوق اكتسبها الشعب بعد ثورة 2011.
السيناريو الرابع : حوار واتفاق سياسى جديد
من الوارد تكرار النمط الذى اتبعته التيارات السياسية بعد ثورة 2011 لحل أزمات سابقة، إذ تقرر التراجع عن الحافة، والاتفاق على السعى لحل وسط عبر الحوار، يشمل لاعبين آخرين مثل اتحاد الشغل، الذى يتمتع بنفوذ كبير وسط الناس.
في النهاية، يمكن القول إن القرارات الأخيرة التى اتخذها الرئيس قيس سعيّد تهدف إلى معالجة الأزمة البنيوية التى يعانى منها النظام السياسى التونسى خلال المرحلة القادمة، إلا أن تأثيرها على تطورات المشهد السياسى فى تونس سوف تعتمد على متغيرات مهمة يتمثل أبرزها فى المواقف التى سوف تتخذها القوى السياسية والأطراف الأخرى من الأزمة الحالية التى تبقى مفتوحة على أكثر من مسار خلال المرحلة القادمة.
شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version